ياسر سليمان معالي.. دراسة عن الدور الترميزي للغة

ياسر سليمان معالي.. دراسة عن الدور الترميزي للغة

24 سبتمبر 2023
فاروق لميز/ الأردن
+ الخط -

صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب "اللغة العربية في ساحات الوغى: دراسة في الأيديولوجيا والقلق والإرهاب"، لأستاذ الدراسات العربية المعاصرة ياسر سليمان معالي، ويتضمن أربعة فصول تتمحور حول مواضيع الترميز والوصل والفصل والمغايرة، والأيديولوجيات اللغوية وتداخلها مع الرمز، و"القلق" و"القلق اللغوي" و"القلق اللغوي العربي"، واللغة العربية والإرهاب، والسياسة اللغوية الأميركية، وغيرها.

خُصص الكتاب لدراسة دور اللغة الترميزي من خلال الأيديولوجيا اللغوية، والقلق اللغوي، والإرهاب، كذلك عُدَّ الصراع السياسي والاجتماعي في الكتاب منطلقاً لإذكاء دور اللغة الترميزي في التعبير عن القضايا المجتمعية الما-بعد لغوية، فاللغة عادة لا يؤبه لها في الحياة اليومية العادية التي تتسم بالرتابة، أما في حالات الصراع، فإنها تطفو إلى السطح، وخصوصاً الصراع الهُويّاتي الجماعي، لترسم الحدود بين الـ "نحن" والـ "هُم"، والـ "مَع" والـ "لا-مَع"، ولتفرز الصديقَ من العدو، ولا يعني انخراط اللغة ترميزيّاً في الصراعات أنها سببها، بل هي بعدٌ من أبعادها وعرَض من أعراضها وإفراز من إفرازاتها مختزنة في ذاكرة الشعوب، التي تَستخدم الدورَ الترميزي للغة في شكل لاإراديّ خلال الصراع، لتعبّر عمّا قد يكون محظورًا من دون أن تُجرّم نفسها. ويضرب الكتاب أمثلة على ذلك من خارج اللغة ليوضح ارتباط الموضوع اللغوي بقوّة بقضايا المجتمع الما-بعد لغوية؛ ما يسمح بالربط بين الدرس اللساني وعوالم السياسة والاجتماع.

يحيل الكتاب إلى أهمية السياقات التاريخية والمجتمعية في دراسة الوظيفة الرمزية للغة في حالات الصراع

واستيحاءً من العنوان، اختار الكتاب من ساحات الوغى (ميادين القتال) في مضمار بحثه: الأيديولوجيا والقلق والإرهاب، وقد استعمل كلمة "الوغى" دون مرادفاتها الأخرى، كـ "القتال" و"الحرب"، لأنّ كلمة "الوغى" لدى جمال الدين بن منظور هي القتال مع تداخل الأصوات والضوضاء والجلبة، وهو تمثيل من المؤلِّف لاختلاط مماثل في الأيديولوجيا والقلق والإرهاب.

ويحيل الكتاب إلى أهمية السياقات التاريخية والمجتمعية في دراسة الوظيفة الرمزية للغة في حالات الصراع، فهذه السياقات تُخرج الرمز من التخمين إلى عالم الواقع، كما يربط دورها الترميزي بأحداث عينية؛ مثل الحملة الفرنسية على مصر، ودعوات المستشرقين، وإحلال الرسم اللاتيني محل العربي في الكتابة العربية، واستبدال الفصحى بالعامية في مصر، وإقصاء المشروع الصهيوني في فلسطين اللغةَ العربية، وعلاقة أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وتبعاتها باللغة العربية. وقد أوضح الكتاب أيضاً علاقة الدور الترميزي للغة الإنكليزية بالهجرة إلى الولايات المتحدة من أقطار أميركا اللاتينية وما شكّلته من تهديد لدى بعض الأميركيين، أو علاقة هذا الدور بالتنافس التكنولوجي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة في عالم الفضاء. وفي الحالة الفرنسية، يشير الكتاب إلى قلق الفرنسيين من غلبة اللغة الإنكليزية الناتجة من العولمة على لغتهم الفرنسية بمعانيها الـ"ما-بعد لغوية". أما الهدف من تنويع الأمثلة سالفة الذكر، فإنه التشديد على كونية الهموم الترميزية التي تعبّر عنها اللغات؛ إذ لا تخلو أيُّ ثقافة من هموم حول لغتها، حقيقية أو متخيّلة، وانتفاء الهمّ اللغوي واستبدال الحنين والشجن به لا يكون إلا عند انقراض اللغة، كما هو مبيّن في الحديث عن "القلق اللغوي"، وعن أن الثقافة اللغوية العربية لا تُغرّد خارج "السِّرْب الإنساني".

الصورة
غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يبحث الفصل الأوّل من الكتاب موضوع الترميز اللغوي من ناحيتين: أولاهما إرساء مفهوم سيميائي للرمز يشمل اللغة ولا ينحصر فيها، على الرغم من هلامية مصطلح "الرمز" وتعدد دلالاته بتعدد الحقول المعرفية التي يُستخدم فيها، وتعدد الأُطر النظرية داخل كل حقل منها. ثانيتهما ضرب أمثلة من الواقع العربي للاستدلال على استخدام اللغة العربية رمزيّاً في سياقات تاريخية محددة يبدو فيها مُفاعل الصراع واضحاً، مع رَفْدها بأمثلة أخرى من ثقافات مختلفة تدعم التنظير الترميزي للغات البشرية. وتتعلق أهم خصائص الرمز بدور اللغة في إنتاج هوية الجماعة عبر العصور والجغرافيا وبالتعبير عن هذه الهوية. ومن بين الأمثلة الدالة على ذلك، استخدام اللغة العربية المعيارية للتعبير عن الهويات القومية والإقليمية والإثنية والقُطرية والطائفية في القرن العشرين، في أطر سياسية تنتظم فيها استراتيجيات الوصل والفصل والتباين في بناء الأمة والدولة. واستنادًا إلى أهمية الصراع في إذكاء دور اللغة الترميزي، تحدّث الفصل عن تشابك الرموز وتعارضها وتصادمها، فالرموز تخاطب العاطفة بفاعلية أكبر من مخاطبتها العقول بالحجّة، وتحدث أيضًا عن أنّ استنهاض الهمم يتطلب العودة إلى "ماضٍ ذهبيٍّ" يبعث في النفوس مشاعر العز والفخار.

أمّا الفصل الثاني، فيتناول باستفاضةٍ موضوعَ الأيديولوجيا اللغوية العربية وأسباب تأخر اللسانيات الحديثة في دراستها، ويقدّم لها فهماً مبنيّاً على دراسات سابقة، متجاوزاً إياها في آنٍ، وهو شرط لوصل الدرس اللساني العربي بالحقول المعرفية الأخرى، كالعلوم السياسية مثلاً، التي أوْلَت مفهومَ الأيديولوجيا بتقاطعاته مع علم الاجتماع أهميةً كبرى، وذلك بنَفَس نقديّ يتيح التحرر من المفهوم الماركسي للأيديولوجيا المحرِّض ضد خوض هذا الموضوع في الدرس اللساني العربي؛ انطلاقاً من أنّ الأيديولوجيا وعيٌ زائف في فهم حركيّة التاريخ. وقد ركّز الفصل على الإيمان بغائية وظائف الأيديولوجيا في المجتمع، ضارباً أمثلة متعددة ومتباينة لتمثلات الأيديولوجيا اللغوية في الثقافة العربية، ورابطاً بعضها بسياقاتها التاريخية. أما اللغويات الشعبية، فأكد الفصل أهميتها في فهم الشأن اللغوي عبر ربطها بالأيديولوجيا اللغوية، وتأثيرها في السجالات الأيديولوجية المؤثرة بدورها في السياسات التعليمية سلباً وإيجاباً.

وخصص الفصل الثالث لدراسة "القلق اللغوي"، بمزاوجة النظرية والتطبيق في موضوع غاب فيه التنظير في الدرس اللساني الحديث، وهو تنظير قاربه الفصل باحتراز منهجي، خشيةَ العَسَف في تعميم مفهوم يختص بفرد، وهو أمر حذّر منه لويس كوسر في دراسته "وظائف الصراع الاجتماعي".

من ناحية أخرى، خُصص الفصل الرابع، وهو في الأصل دراسة متعلقة بالإرهاب وُضع نصُّها الأساس باللغة الإنكليزية، وتُرجم لنشره بالعربية قبل أن يُنشر بالإنكليزية، لدراسة رمزية اللغة من خارجها، وتحديدًا من الولايات المتحدة في أعقاب هجوم 11 أيلول/ سبتمبر وتأثيره في الفضاء اللغوي. وبعد تقدّم مقولة خطر أذناب المستعمرين على اللغة العربية في الفصول السابقة، يتعرض هذا الفصل لتحليل صورة نمطية معاكسة تنظر إلى اللغة نظرة تربطها بالإرهاب الذي لحق بالولايات المتحدة، وقد بيّن الأدلة الميدانية التي تدل على أهمية الوظيفة الرمزية للغة مقابل وظيفتها الأداتية. وفي المقابل، تعرض لكيفية نشوء فهم لدينا لـ"الآخر"، الذي قد يكون الأجنبي، كالأميركي في الدرجة الأولى، وقد يكون ابن اللغة نفسها، كما هو الشأن في حالة الحرب الأهلية اللبنانية.

المساهمون