من يوميات مارسيليا

من يوميات مارسيليا

10 نوفمبر 2022
"خليج مارسيليا من ليستاك" لـ بول سيزان، 1885، زيت على قماش (Getty)
+ الخط -

صباح الثلاثاء 19 تمّوز/ يوليو 2202

تونس تمضي وبإرادة دولية شبه مرتَّب لها إلى الفوضى. منذ قرون وهي واقعة تحت سيطرة القوى البحرية. جاء الموحّدون من البحر، وعندما وصل قائد الأسطول إلى المهدية، استقبله الكاتب الموسوعي والشاعر التيفاشي القفصي بقصيدة مطلعُها:

ما هزّ عطفيه بين البيض والأسل/ مثل الخليفة عبد المؤمن ابن علي

بعد دولة بني حفص، وهُم ولاة الموحّدين على أفريقية (كما كانت تُسمّى)، جاء الإسبان إلى تونس من البحر، ثم جاء العثمانيون من البحر، مخلّصين أرض الإسلام من يد المسيحيّين. كان ثيربانتس من بين جنود شارل الخامس الذي استولى على تونس، وقد أقام بقلعة حلق الوادي التي بناها الإسبان على البحر (يُسمّيها التوانسة الزندالة). بعد ثيربانتس بثلاثة قرون تقريباً، يأتي أديب آخر إلى حلق الوادي، ويُقيم قريباً من القلعة؛ هو أحمد فارس الشدياق، ويعلن إسلامه في تونس، وله قصيدة يُعارض فيها قصيدة المتنبّي "ما مقامي بأرض نخلة". ينشد الشدياق: "ما مقامي بحلق الوادي".

بعد العثمانيّين، جاء الفرنسيون من البحر هُم أيضاً. وظلّت تونس إلى اليوم تُحكَم من البحر. واليوم تدخُّلُ فرنسا حاسمٌ في مستعمرتها القديمة والصغيرة تونس.


الجمعة 22 يوليو/ تمّوز. الحادية عشرة صباحاً

مارسيليا في عزّ الصيف يغزوها السيّاح، أفواج من السيّاح من كلّ بلاد العالم. الشوارع تموج بالمارّة. اختفت مارسيليا الأسطورة، مارسيليا بوابة المتوسّط. مارسيليا بارات البحّارة التي تضجُّ بالمافيا الصقلّية والكورسيكية، وعصابات الاتّجار بالحشيش والأفيون التي يمتدّ نشاطها إلى سايغون وبيروت ونيويورك. مارسيليا خطوط البواخر التي تحمل المهاجرين إلى أستراليا وإلى العالم الجديد، البواخر التي حملت رامبو إلى جاوة، وحملت جبران وبليز سندرار إلى أميركا. مارسيليا بيرم التونسي وعلي الدوعاجي وعمّال الرصيف من جزائريّين وتونسيّين، ومغاربة وإيطاليّين وإسبان وأيرلنديين.

المرأة العجوز التي لقيتُها قبل البارحة في المترو، سألتُها عن المكتبة، قلتُ: "أي محطّة أقرب للمكتبة؟". كانت امرأة سمراء ذات ملامح صينية، اعتقدتُ في الأوّل أنّها فرنسية من أصل فيتنامي. قالت: "لا أنا جزائرية. كان أبي بروليتارياً"، قالتها بتأكيد واعتزاز بانتمائها الطبقي، وبحسّ من كابَد الفقر والمعاناة والتهميش... وانتقل الحديث إلى استلاب الشباب الذين حولنا وضَياعهم داخل شاشات هواتفهم المحمولة ولوحاتهم الإلكترونية، قالت: "أنا أقرأ. المطالعة تحمينا أخلاقياً"؛ وذكرت ألفرد دو فيني، "أنا أقرأ الآن مذكّرات دو فيني"... وتذكّرتُ صديقي الذي قال لي على التليفون من ملامح مارسيليا إنّ بنايات وعمارات وسط المدينة يملكُها أبناء الكادحين، والطبقات الدنيا؛ نقيض باريس التي دفعت فقراءها إلى الأطراف، إلى الضواحي...

نقيض باريس التي دفعت فقراءها إلى الضواحي

زنوجُ وعرب المستعمرات القديمة في أفريقيا هُم من يمنح حياةً للمدينة بألعابهم البهلوانية، ورقصهم العنيف وموسيقاهم الصاخبة التي تدفع الكآبة عن النفس. لم أعُد أرى في الأرصفة والشوارع الحُواة الفرنسيّين يرسلون النيران من أفواههم، ويقومون بألعاب السحر والتنويم المغناطيسي، أو يلاعبون حيواناتهم.

رأيت في مدينة إيكس شباباً سُمراً ذوي عضلاتٍ مفتولة يُغطّيها الوشم يطيرون في الهواء أمام رصيف المقهى، حيثُ جلست مع جميل، وعندما سألت عن الشباب قيل لي مكسيكيّون. النادل كان صينياً لا يبتسم، يتحرّك مثل الإنسان الآلي. اختفى الفرنسيون من فرنسا، أو هكذا بدا لك الأمر. عندما وصلت إلى هنا، ظللت حوالي أسبوع لم ألتقِ فرنسياً في هذا الحي، الدائرة الثانية. تذكّرتُ ذاك الشتاء عندما ذهبنا في كانون الثاني/ يناير إلى فينيسيا، وكانت مليئة هي أيضاً بالسيّاح، ووجدنا كلّ مقاهيها ومطاعمها تقريباً يمتلكها الصينيّون؛ وكنتُ كلّما رأيت صينياً تعودني رباعية نوستراداموس التي يقول فيها: "سنة 2011، الصينيون في فرنسا". قرأتُ هذا التفسير للرباعية آخر السبعينيات عندما كان الصينيون ما يزالون منحسرين وراء سورهم الأسطوري.

بعد حين سأركب السفينة إلى النقطة الحمراء، وأجلس على الحجارة البحريّة أتأمّل الأسماك تتراقص في ضوء الشمس، تحسُّ بالعالم يعيش انتظام ساعته الكونية؛ من حركة الأسماك إلى حركة النجوم إلى مياه نهر هيراقليطس، وساعتك البيولوجية التي تتحرّك في الظلمة...


الإثنين 25 تمّوز/ يوليو. السادسة مساءً

صباح اليوم، وأنا أقرأ المحاضَرة الأولى من كتاب بورخيس "صنعة الشعر"، ذكر قصة اللاهوتي الإسباني فراي لويس دي ليون Fray Luis de León. كتب: "وفي اليوم الأول الذي عاد فيه دي ليون إلى إلقاء دروسه بعد سجن دام خمس سنوات، استهلّ محاضرتَه بقوله وكما قُلنا بالأمس".

في الزيتونة كان شيوخ العلم يفتتحون دروسهم بالقول نفسه: "تقدّم لنا في الدرس الماضي الكلام في كذا وكذا". كان الشيخ الزيتوني محمد النقّاش يُلقي علينا هذه الجملة بداية الدرس كتواصُلٍ للدرس الذي مضى عليه أسبوع، ولعلّ دي ليون يقصد ما تقدّم في الدرس السابق الذي لم يكن البارحة، وهو أسلوب تعليم تلك العصور، وقد أخذوا مناهجهم من معاهد الإسلام قبل أن ينفصلوا عن التعليم الإسلامي في عصر النهضة، عندما أخذت أوروبا طريقاً صاعداً وانفصلت عن بقية الحضارات الأُخرى، واستمرّ العالم الإسلامي يغطّ في نومه.

ينابيع الشعر والتصوّف واحدةٌ تنبجس من أعماقنا المظلمة

هذا تأويل، ولا بدّ من رجلٍ متمرّس بلغاتِ وعلوم القرون الوسطى مثل أمبرتو إيكو، أو أحد علماء اللاهوت المجهولين، المتبحّرين في اللغات الآرامية، واليونانية القديمة، واللاتينية، لعلّه يعيش الآن في أحد الأديرة المنعزلة فوق إحدى جُزر اليونان، أو في دير في صحراء العرب، أو في أعماق الشمال الإسكندنافي. هذه الجملة... التي اقتطعها المعاصرون من سياقها؛ ربما.

كانت مارتين تورانس هي أول من روى هذه النادرة، ونحن نتمشّى عند الغروب وسط أروقة "جامعة سلامنكا" المُظلمة ذات العمارة القروسطية الكئيبة. قالت وأشارت إلى القاعة التي أمامنا هنا، ألقى فراي لويس دي ليون دروسَه وسجنته الكنيسة بتهمة الهرطقة خمس سنوات غاب فيها عن تلاميذه، وفي اليوم الذي عاد إلى التعليم افتتح الدرس بقوله تقدّم لنا في درس البارحة... وتحوّلت الجملة إلى طُرفة تتردّد منذ قرون.

أين غابت مارتين؟ كنّا التقينا في ندوة "قصر سوريزي" Château de Cerisy-la-Salle حول لوران غاسبار. كانت قد كتبت أهمّ رسالة عن سان جون بيرس في الآداب الإسبانية. تكلّمت في الندوة عن أنّ ينابيع الشعر والتصوّف واحدةٌ، وأنها تنبجس من أعماقنا المُظلمة، وأنّ القصيد يظلُّ مجهولاً؛ ذكرَت الغزالي، واللاهوتي الألماني المعلّم إيكهارت، اللذين ذهبا بعيداً في عوالم الداخل. من الغداة جاءني موريس دي كوندياك، وأعطاني فصلة من كتاب كان بصدد كتابته حول التصوّف والمعلم إيكهارت... والآن أمام بحر مارسليا تعودني صورة مارتين ونحن نسير في باحة قصر سيريزي، تحت الأشجار العملاقة، وفي ضوء النهار المتسلّل بين الأوراق أصفر ضارباً إلى خضرة. مارتين بملامحها الدقيقة وتلك الابتسامة الأنيقة ولمعة بؤبؤَي عينيها بلون القسطل الغامق. عندما تتكلّم تجحظ عيناها وتفترُّ أساريرها وهي تعلن رأياً خطيراً.

أين غابت مارتين؟ قضينا أسبوعاً في سلامنكا، قرأتْ شذراتٍ من سان جون بيرس. كنّا نخرج في الليل إلى المقاهي وفي النهار نتجوّل قرب نهر التورميس، حدّثتني عن أبيها اليهودي الفرنسي، وكيف خبّأ مكتبته أيام الحرب عند صديق استولى على قسم كبير منها. أرتني طبعةً نادرة لـ"ألف ليلة وليلة"، ومن "الكوميديا الإلهية"، وبعض الكتب الأُخرى في طبعات فخمة، وهذا كلّ ما بقي من مكتبة أبيها في مدينة ليون...

الآن أجلس أمام ميناء مارسيليا القديم، أتفرّج على المراكب المكتظّة بالسيّاح تأتي وتغادر وسط غابة من الصواري والسفن البيضاء، وتحت شمس قويّة تُشعل سطح المياه التي تبدو كالمرآة الفضّية والزرقاء... أين مارتين؟ أين الشاعرة الفرنسية هيثر دوهولو ذات النكهة الأنكلوسكسونية؟ أين لوران غاسبار؟ أين ذاك المثقّف الإنكليزي الذي كان يكلم الخرفان في الصباح بكلام يشبه الهذيان الشعري؟ بدا لي في صورة كُولن ولسن، أين الشاعر الهنغاري جيورجيو سامليو؟ كانت أياماً نادرة اجتمعت فيها المعرفة والتواضع لدى أولئك المثقّفين من يندر اجتماعهم في مكان واحد. كان قصر سوريزي صورةً حديثة للوكيوم أو الجيمنازيوم الإغريقي؛ مدرسة أرسطوطاليس، هكذا أراده مؤسّسه بول دي جاردان.


* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام

المساهمون