تكاد معرفتنا بفكر النهضة تنحصر في عدد قليل من الأسماء التي نكرّرها كلّما جاء الحديث عن هذه المرحلة من التاريخ العربي الحديث، تاركين في الظلّ العديد من الأسماء التي ساهمت في وضع لبِنات هذا الفكر الجديد الذي شهدته الضاد خلال القرنين الماضيين.
بين هذه الأسماء التي لم تنل ما تستحقّه من القراءة والأضواء يحضر اسم المفكّر واللغوي السوري محمد كرد علي (1876 ــ 1953)، الذي عُرف بتأسيسه وترؤّسه "مجمع اللغة العربية" في دمشق منذ 1919 وحتى رحيله، إضافة إلى تحبيره العديد من المؤلّفات في اللغة، والبلاغة، والتاريخ، والفكر السياسي، والجغرافيا، والسيرة.
عن "دار الرافدين"، صدرت حديثاً طبعة جديدة من كتاب كرد علي، "الإسلام والحضارة العربية"، بتحقيق ومراجعة أحمد زياد؛ وهو عملٌ في مجلّدين كان المؤلّف قد أصدره عام 1934.
يضمّ الكتاب مجموعة من النصوص والمقالات التي ألّفها كرد علي قُبيل وبُعيد اختياره من قِبَل المجمع لتمثيله في "مؤتمر المشرقيات" الذي عُقد في مدينة ليدن بهولندا (أو في "بلاد القاع"، كما يسمّيها) عام 1931، والتي يردّ فيها على "ما يسري على أسلات أقلام بعض مؤلّفي الغرب، ولا سيّما علماء المشرقيات، من أمور نابية عن حدّ التحقيق والنصفة، كلّما ذكروا الإسلام وأهله، والعرب ومدنيّتهم".
لكنّ صاحب "خطط الشام" لا يتبنّى لغةً قدحية في سياق تفنيده لمقولات الاستشراقيين غير المنصفة، بل يدخل النقاش بنظرة تحليلية تبحث عن أصل المآخذ والاختلافات بين هؤلاء المؤلّفين والثقافة العربية، وتفنّدها بهدوء، ثم تستعرض مقولات مُعاكسة لها من مفكّرين غربيين آخرين، كما هو الحال مع غوستاف لوبون.
كما لا يقع المؤلّف في فخّ الشوفينية المتعلّقة بالحضارة العربية. صحيحٌ أنه يذكّر بتقدّمها في العلوم والفنون والشعر، وبفضائلها، إلّا أنه يبقى منفتحاً على الآخر، متّفقاً مع دعوة بعض المستشرفين إلى "توحيد التاريخ في العالم، وتقليل جميع مصادر الأحقاد بين الأمم"، وذلك من خلال "نبذ كلّ ما يثير الحقد، ويدعو إلى الظنة، ويفك عرى الألفة"، مُشيراً إلى أنه "لن يتم قيام هذا المجتمع الحديث إلا بتعاون الشرق مع الغرب تعاوناً حقيقيّاً يقوم على الحرمة المتبادلة والمصلحة المشتركة، والعدل الذي لا يتجزّأ".