"رام الله" عبّاد يحيى: شجرة المصائر غير الملحمية

"رام الله" عبّاد يحيى: شجرة المصائر غير الملحمية

13 اغسطس 2023
"مدرسة الفرندز" في رام الله عام 1909
+ الخط -

لو أنّ رواية "رام الله" ملحميّة، لكان يمكن لها أن تخلق سلالَتها الفلسطينية عبر ما يزيد عن قرنَين، أي منذ 1782 حتى موت سالم؛ آخر الأبناء المباشرين لعائلة بطرس بن إبراهيم النجّار عام 1988، إبان الانتفاضة الأُولى.

أو يمكن أن تكون الخاتمة مع موت البيت الأسطوري وتحوُّله إلى مطعم باذخ، اقتضى من المستثمر، الذي لا تعنيه معرفة عائلة النجّار، أن يُنزِل الصورة الجماعية بالأسود والأبيض لهذه الذرّية، وأن يضع مكانها صورة "أبو عمّار".

وأحاول أن أفكّر فيما كان يفكّر فيه الروائي عبّاد يحيى، مع سؤالٍ مراجعة ذاتي: لماذا وما الفائدة من التفكير في التفكير؟

لأنَّ الرواية ليست موصوفة كما في "رام الله الشقراء"، ولا هي خبرٌ لمبتدأ مثل "جريمة في رام الله"، بل هذه المرّة مكتوبة بالاسم الحافي، كما لو أنّها، بحجمها الكبير، تحكي الوجود الأوّل وتتصادى مع كتابات التكوين الأسطورية.


خارج دفتر العائلة

لكن عبّاد يحيى أدخل سنواتٍ إضافية منذ 2017، كانت فيها الأحداث الروائية من خارج دفتر العائلة، أي بعد تاريخ سقوط آخر غصنٍ رئيسي من شجرة المصائر المذكورة في الرواية؛ شجرة عائلة النجّار التي بَنَت بيتَها في قرية تحت الحُكم العثماني ذات غالبية من الروم الأرثوذكس، اسمُها رام الله، ثم صارت بلدة صغيرة تسير ببطء تحت الانتداب البريطاني.

أمسَت مدينة فلسطينية مفتوحة للاجئي النكبة، ومدينة مهاجرين إلى أميركا، فمدينة أردنية لحوالي عشرين عاماً من النكبة إلى النكسة، فمدينة يديرها الحاكم العسكري للاحتلال حتى مات فيها العجوز سالم في حدود التسعين من عمره، وقد جاء من أميركا يزور بيتَ عائلته وملعبَ روحه المهجور، فكان نصيبُه أن يقضى باستنشاق غاز القنابل التي أطلقها الاحتلال على متظاهرين في انتفاضة الحجارة.


فكرة شريدة

وضعَنا الكاتب بجدارة في عالم فلسطيني منذ ما قبل القضية السياسية، وهو يتشكل من فكرة شريدة على قدمَين. لم يكن البلد بلداً محتلّاً، بل دائماً كما كان "كُورَة في الشام"، مثلما يأتي في لسان العرب، ولدى جَريان الرواية جزءاً من الدولة العثمانية.

والفكرة الشريدة على قدمَين سنتخيّلها لقطة سينمائية عريضة في أرض عكّا وأمامها البحر، حيث جمال باشا الجزّار في جولة تفقّدية عام 1782؛ العام الذي سيُدشِّن فيه جامعه الشهير، وحيث الولد الهائم على وجهه، وقد ذَبح الجنود أخوَاه في البادية، ليستولوا على صيدهم، فصار فاقدَ النطق وسيصير اسمه "النجّار"، لأنّه كان صبياً تعلّم الحرفة في كنف نجّار لبناني. من حرفته ستأتي سلالة شخص ليس لديه نسبٌ وماضٍ يعرف كيف يرويه، بل جحيمٌ أكبر من لغته ومن قدرته على الإتيان بجملة واحدة مفيدة.

بدا لي أن عبّاد يحيى غير مغرَم بإقامة ملحمة جرّارة. هناك لغة للجسد والتراب جيّاشة وغير منبرية. يموت من يموت بكلمة واحدة، فيجد القارئ نفسه "جَمَل محامِل"، يمشي وعلى كتفيه تاريخ ولادات وشواهد قبور.


"إفساد" الخطّة

هو غير معني بذروة وتحتها الجموعُ الغفيرة وبعدها الختام فنزول الستارة. "أفسد" يحيى هذه الخطّة وجعل في الرواية منذ البداية رواية ثانية حديثة بلهجة مختلفة، ولا تربطها رابطة دم بنسل الرواية الكبرى، بل ستوجد بعد زمن بعيد مع شراء البيت، بطل الرواية، وبصفحات قليلة مقارنة مع المتن الرئيسي الذي بُنيت عليه العمارة السردية الضخمة.

الرواية الصغرى رواية أستاذ جامعي توفيت زوجته في الأربعينيات من عمرها -ويكبُرها هو بعشر سنوات- وفاة فجائية دون مقدّمات مَرَضية، ثم يكتشف بأنّ الزوجة المختصّة بمؤسّسة تُعنى بضحايا السجون والتعذيب، كانت على علاقة غرامية بمصوّر صحافي، كما يكتشف أنّها من ورثة الذين اشتروا بيت بطرس عام 1993، في زمن أوسلو الجديد.


العتبات

ولأنّه كذلك، فمن الطبيعي أنْ ليس لدى الأستاذ الجامعي ما يضيفه إلى الرواية الكُبرى بعد موت أو غياب الجميع، سوى أن يكون مستمعاً متلقّياً من العتبات.

فالعتبات السبع هي التي تتولّى كلُّ واحدة منها غصناً من شجرة المصائر. وقد كان الرجُل مثل "السَّنّيد" في السينما، أي عبد السلام النابلسي خلف فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، وهو دور غير مُهين، إلا أنّه يبقى أقلّ توهّجاً ورسوخاً من الناس الذين مشينا معهم وهم يجبلون الطين ويسدّون الثغرات في أقفاصهم الصدرية، ويَعُون وجودهم في صدماتٍ متوالية خلال قرنَين.

كما أنّ الروح المكتوبة لعلاقات ما بعد أوسلو، بما فيها من تحوّلات الخليط البشري المتدفّق إلى مدينة يحشر فيها الغاضبون والمُذعنون ومُحدثو النعمة وصيّادو الفرص.

هذه الروح، وإن كانت تُحسَب للكاتب في صبره على إدارة لغتَي عالمَين قديم وحديث، إلّا أنّ القارئ، كما أظن، سيجد نفسه مسكوناً بالشخصيات الأُولى، لا بل في بيت يعرفه جداراً جداراً.


"البئر الأولى"

إنّه التاريخ الأعز و"البئر الأُولى" للحنين، ولأنه بِدئي وبطيءٌ ويترك علاماته في التراب مثلما تتركها حوافر حمار بطرس الذي لم يتخلّ عنه وسيلة نقل. بطرس الذي كان آخر شخص يتحدّث بلهجة فلّاحين في عائلته حتى وفاته عام 1929.

على سبيل التنويع، يتقاطع زمانان أو يستمرّان في ثياب جديدة، إلّا أنّ قصة "خيانة" زوجة في عام 2017، وانخراط الزوج في قراءة التاريخ الاجتماعي للمكان، أو إذا جاز القول حلْبُ مأساة من ضَرْع نفد لبنُه، فضلاً عن أنّ القارئ لا يستطيع تحمّل مأساتين على مسرح واحد. خشبة المسرح ذاتها لا تكون مرتاحة، لأنها مصمَّمة فقط لواحدة.

المأساة البعيدة في الولد النجّار، أنّه الكائن النكرة الذي عاش بالحظّ والمصادفة. والثانية في ولادة سالم ابن نعمة زوجة موسى الشلبي. ولكنه رسمياً ابن بطرس، لأنّه ابن زنا، وهو ليس كذلك. نحن القرّاء متعاطفون معه، ونعرف أنه في عام 1900 استيقظ الزوج موسى الشلبي ممّا يُعرف طبيّاً بـ"الحالة النباتية" أي الإغماءة الطويلة، بعد حادث سقوطه عن الدابّة. استيقظ وعاشر زوجته ثم مات.

نُسب الولد إلى جدّه بطرس، وحُرمت أمُّه منه، درءاً للفضيحة. وإذ لسنا في زمن إثباتِ النسب عن طريق الخريطة الجينية، بات المولود سالم موسى الشلبي ابن زنا في السرّ، وفي العلن معمَّداً باسم سالم بطرس النجّار.

وما من جهدٍ كبيرٍ نبذُلُه لنعرف أنّنا في كينونة روائية تستلهم وتُحوّر رموز العهد الجديد من يوسف النجّار، وولادة مريم العذراء لابنها يسوع من الروح القدُس.


تجربة قرائية

لا يريد الكاتب التورّطَ في ملحمة وجود، لذلك منذ البدء رمى في وجوهنا الأستاذ الجامعي الذي قد يمشي الآن، ونحن نتحدّث عنه في شارع "رُكب".

ولقد قرأتُ الرواية مرّتَين، خلال أقلّ من عام، ولهذا أتحدّث عن تجربة قرائية تخصّني. علِقَ في ذهني أبناء الرواية الكبرى فقط، وحين يأتي دور الأستاذ الجامعي كنتُ أجامله لأنّه شخص محترم، وأنا أستعجل العودة إلى العالَم القديم الذي عرفته منذ مئتي سنة، وأشكره على قراءته الأكاديمية في استعمال منظّمة التحرير الفلّاحين والفِلاحة رمزاً للهوية، لكنّني ناطور أمين، عليّ العودة إلى ناسي الأوّلين الذين قد يموتون في أي لحظة، دون أن يحظوا بهاشتاغ صغير.

أكثر حضوراً من عائلة الأستاذ الجامعي وأصدقائه ومعارفه، هي رسومات بيت العائلة البسيط من الحجر وطين الأرض وفي الحوش زريبة، وعلى مدى ثلاثين عاماً سيتحوّل إلى بيت كبير أكثر غرفاً وله بلكونة واسعة، وسيعرف لأوّل مرّة الستائر، مثلما عرف زلازل عدة ضربت بلاد الشام، وسيبنيه خليل؛ الابن الذي تخرّج في مدرسة "الفرندز" (الأصدقاء) وفرّ مهاجراً إلى أميركا حتى يبقى شقيقُه سالم وحيداً، وبالتالي لا تأخذ الدولة العثمانية "خليل" جندياً في السفربرلك، ثم أصبح أميركياً يتطوّع في الحرب العالمية الأولى دفاعاً عن بلده الجديد.

الصورة
رام الله

في هذا البيت، تتغيّر ملامح العائلة التي تجبرها زلازل الطبيعة والحروب على احتضان عائلة من فلّاحي جبل الخليل، ولا يبقى في البيت الكبير عند نكسة حزيران سوى العجوزَين، المسيحية هيلانة، ربّة البيت، والمسلمة الفلّاحة فرحة، الخرِفتين الوحيدتين اللتين إذا تخاصمتا سبّت كل واحدة منها دين الأُخرى، بينما تبكيان معاً ذرّيتهما، وقد أخذتهما السبل إلى أميركا والكويت والأردن وسائر بلدان الشتات.


حسّ المراقبة

خلف العتبات السبع، التي تُفصح بما تراه عادلاً وصادقاً، استثمر الكاتب جهداً كبيراً في قراءة التاريخ الاجتماعي والسياسي، وبلسانه في أحد لقاءاته المصوَّرة قال إنّ على الروائي أن يتحلّى بحسّ المراقبة.

هو راقب بعمق أرشيفات وصوراً وكتبَ تاريخ وسيرة، فقدّم رواية جارية كالنهر، ولأنّنا نتابعها من المنبع، فنحن تربّينا مع الناس وودّعناهم، إنهم أجدادنا الذين وعوا فلسطين لأوّل مرّة، وصارت لدينا مسؤولية عاطفية تجاه أولاد وبنات مثبتة أسماؤهم في شجرة العائلة على صفحة من الرواية، ولا نعرف ماذا حلّ بهم.

إنّ الروائي يدفعك إلى هذه المسؤولية العاطفية، وقد ينتبه إلى اللعبة، وإذا لم ينتبه إلى ما فعله بالقارئ، فهو حتماً روائي جيّد. هكذا كانت رواية "رام الله".

ومن ذلك، تعلَق في ذاكرتي صورة الولد النجّار ونعمة التي ماتت ملوّعة، وقد صار ابنُها شقيقَها، وحنّة حفيدة بطرس وهي ذات عقل أصغر من عمرها الزمني. إنّها من أكثر الشخصيات التي تشقّ القلب وهي تُسلَّم إلى دار رعاية، بعد أن لم يعُد أحد موجوداً فيرعاها، وبالتأكيد جميل السياسي الحزبي المُبعَد من رام الله، وقد مات في الكويت أواخر الثمانينيات، ورحلت عائلته إلى مدينة الزرقاء الأردنية.

في خُطبته لدى تسلّمه جائزة نوبل عام 1968، قال الروائي الياباني ياسوناري كاواباتا إنّ هناك ثلاث مجموعات من البشر بمقدورها توليدُ "الجمال الخالص"، وهي العملية التي يتعيّن على الأدب تسجيلُها. وهذه المجموعات الثلاث هي على التوالي: الأطفال الصغار، والنسوة الشابّات، والرجال المحتَضرون. ولقد اعتنت "رام الله" عبّاد يحيى بميلاد هؤلاء وموتِهم ولم تُقصّر في استحضار سبعة أجيال (إذا اعتبرنا الجيل ثلاثين عاماً) على نحو غير مسبوق في الرواية الفلسطينية.


* كاتب من الأردن

آداب وفنون
التحديثات الحية
 

المساهمون