حدائق العاشق (12): أشجار الليمون

حدائق العاشق (12): أشجار الليمون

26 اغسطس 2023
نبيل عناني/ فلسطين
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.



البلاد صارتْ ظلالاً 
صارت ملآى بالظلال

(قصيدة سومرية)


حين تُوضع الآنيةُ المعدنية أو الفخّارية على الرفوفِ أو أطرافِ المكاتب أو في زاويةِ الصالة، أو تُترك أحياناً على الأعشابِ حتى صباح اليوم التالي، يظلّ لها رنينٌ ولغةٌ، أُلفةٌ وإحساس بالهوية، ولكنّ الأمرَ يختلف حين يكون إنسانٌ ماضي الآنية، مجردَ شيءٍ معزول في هذا الصمت النائي بعد أن تحوّل إلى إناءٍ لا يصدر حتى الرنين، مُلقى هكذا بين أربعة جدران.

هذا ما حدث بالضبط حين استيقظَ في صباح ذلك اليوم الأول من صيف آب/ أغسطس، صباحَ الجراد الزاحف، فبدا له العالمُ حسيس إشاراتٍ خرساء لا تقول شيئاً. أو هي تقول شيئاً إلّا أنه لا يدركه وهو في حالة الإناء الساكن.

قبل ذلك بأيام أو شهور كان مُطمئنّاً إلى أنه توصّل أخيراً، إلى إدراك قيمة أن تهتمّ بحديقتكَ الخاصة، حديقة حقيقية لا مجازية. ستةُ أمتار من العشب أمام نوافذ المكتبة تصلُ حتى حدود السُّور الحديدي المغطّى بالياسمين. مساحةٌ صغيرة تتّسع لتأمّلٍ باتّساع مجرّة هائلة. هكذا خُيّل إليه وهو يُراقب هذه الكائنات الخضراء النقيّة من أيّ رغبة معذّبة، بدءاً من الغرسة الرقيقة، وحتى الشجرة الكبيرة.

تستغرقه أكثرَ من أيّ شيءٍ في العالَم فكرةُ أنّ شجرةَ وردٍ واحدة تحمل أزهارها ملايين البذور، لو انتشرت بذورها على هذه الأرض لملأت كلّ زاوية فيها، بدءاً من المُنحدرات الجبَلية ووصولاً إلى السهول الغامضة التي تتّجه إلى البحار دائماً. على حافةِ أمتار العشب ثلاثةُ أنواع من الأشجار: التين والرمان والليمون، تُرافقه حتى بوّابة السور صباحاً حين تكونَ الشمس في وجهه، وتعود معه مساءً مائلةً في الريح حين يعود. 

انقطع تسلسلُ شيءٍ ما وتوقّف الليل، هذا الصباح غريب جاء من مكان آخر

تظهر بضعةُ أزهار بيضاء، وتتساقط بلا سبب، فلا تظلّ لشجرةِ الليمون إلّا أوراقها الخضراء. يفكّر بعُمرِ إنسانٍ ما، تتساقط أزهاره قبل أن يعرف أيّ ثمارٍ غامضة حلمتْ بها. الريحُ تعصف فجأة بين آونة وأُخرى بلا سبب واضح، فتتنفس الأشجارُ الثلاث غربتها في وحشة الليل.

مع أشعةِ الشمس المائلة قليلاً، شمسٌ لم تظهر بعد من وراء البيت المُواجه، مع ليلة الأمس التي مرّت وكأنها لم تمرّ حتى هذه اللحظة، انقطع تسلسلُ شيءٍ ما. توقّف الليلُ ولم يأتِ الصباح. هذا الصباح الغريب جاء من مكان آخر. لم يبزغ من الليلة نفسها. 

حتى أصوات قذائف المدفعية البعيدة التي يرتجُّ بها أقصى الفضاء لم تكن حقيقية تماماً. لا بدّ أنها تحدُث في عالَم آخر، كما حدث هذا الصباح في عالَم آخَر، ولم يحدث هنا. في كلّ لحظة من لحظات هذه اليقظة ودَّ أن ينتزع نفسه فجأة من هذا الحدث الوهمي، حدث العراقيين الماثلين في قلب معنى ليس لهم، كما لو أن يقظته كانت حُلماً وحلمُه اليقظة التي أصبحت بعيدة المنال. 

تأخّروا كثيراً قبل أن ينتشروا في الأحياء الآهلة، وقبل أن يحتلّ الجنديُّ الخلندُ المكمن الإسمنتي، ويتجوّل الجنديُّ الجرادة أمام البيت المُواجه، ويطلّ الجنديُّ العظاءة من نافذة السيارة، وقبل أن تغلق المداخل إلى الأمسِ والغدِ، ويتدخّلوا في تتابُع الزمن، ويقطعوا التواصل بين الحقيقي والوهمي، فيعلق الحقيقي وراء الذاكرة، ونقف في صحراء الوهم والظلال، ويتوقّفوا مثل هذا اللاشيءَ الماثل في عُمق الحقيقي على الأرصفة وأبواب البنايات والمداخل وتقاطُع الطُّرق. 

عند حاجز يلي الجسرَ مُباشرة سأله جنديٌّ صغير السنّ، بعد أن طلب هويته، عن عدد أزرار قميصه، فردَّ مندهشاً إنه لم يسبق له أن فكّر في عدّها. فتسامح الصغيرُ وقال: "حسناً... عدّها... وأخبرني في المرّة القادمة". 

لن تكون هناك مرّة قادمة. الزمنُ لم يعد يتقدّم أو يتراجع. لم يعد زمناً لشيء من الأشياء، كأن يكون زمنَ إنسان أو شجرة أو عشبةٍ حتى. الزمن مُصمتٌ وساكنٌ مثل حصاةٍ ملساء. 

جسدٌ يتشمّسُ ذات ظهيرة على سفح جبل فيزوف. تهتزّ الأرض. هديرٌ يُحيط بكلّ شيء، وتندفع إلى السماءِ أدخنةُ البركان بضربةٍ قاصفة. تتدفّق الحِمَمُ على جوانب الجبل، يُدرك الجسد نفسه خفيفاً ضائعاً فوق هوّةٍ لا قرارَ لها، يندفعُ هابطاً السفحَ مُتعرّجاً مع تعرُّج الصخور والأشجار والأعشاب، يلوحُ ويختفي، باتّجاه السهل الهادئ.

لا يخطر ببالنا أنّ الزوالَ ينبع من أعماقنا ويعيش معنا لحظةً لحظة 

نهرُ الحِمَم المصهورة يتدفّق وراءه مُسرعاً بين الأثلام، يُطبق عليه، يطغى على أطرافه، يُغرقه بأمواجهِ الساخنة، يقبض عليه وعلى صراخه، على أمسهِ ويومهِ وغدهِ الراكض إليه، بقبضة لزجة مصهورة واحدة، فيسكن الجسدُ الغارقُ في نهر الحِمَم، كتلةً ساخنةً مندفعةً إلى السفح، تصطدم بالقاعِ، بالصخور، إلى أن تهدأ عند حافة السهل الذي بدأ يهتزّ الآن هزّاتٍ مُتتالية، بينما يواصل الغليانُ اندفاعه نحو بومبي الغائمة الآن بسُحبٍ سوداء، وتتدافع في شوارعها الحجريةِ المُظلمة ظلالُ الناس الهاربين. عتمةٌ غريبة ليست من هذا العالَم ولا تنبع منه.

نعرفُ الزوالَ بطيئاً ومتدرّجاً، وحتى صحوتنا على جثّةٍ أو مقبرة أو شظيّة جرّة فخّار غارقة في الطين تكون صحوة مُتمهّلة، لها من الأمس واليوم ما يمنحها مسافةً لتكون حزينةً متأمّلة يائسة. لا يخطر ببالنا أنّ الزوالَ ينبع من أعماقنا. يعيش معنا لحظةً لحظة حتى ونحن نتأمّل الشمسَ المُشرقة أو نمضي إلى مشاغلنا، حتى ونحن نخطو نحو بوابة المساء، ونمضي إلى مواعيدنا وحدائقنا، حتى ونحن نسهر على حافةِ الفجر مُحدّقين فيه كما نحدّق بنبضاتِ قلوبنا، مطمئنّين إلى أنّنا أفلتنا من الزوالِ هذه المرّة.

حين اكتشفوا الكتلةَ السوداء المتصلّبة على أطراف السهل بعد ألفي عام، حقنوها بالجبس الأبيض، وكسَروا الحِممَ المتحجّرة المُحيطة بالفراغ الذي كان جسداً، فظهر الجسدُ منحوتةً بيضاء في بداهة الرُّعب الأُولى، حركة هاربة إلى الغدِ تجمّدت في قبضةِ لحظة واحدة. ظهرتْ ذكرى ظهيرةٍ على سفح فيزوف خرساءَ مثل بياضٍ مُطلق في يومٍ لامع، وراء مئات الأعوام، جاء من العتمة، عتمةِ الشيء الذي صار إليه المكانُ والزمانُ، زمان ومكان بومبي وكلّ أشجار الزيتون والبندق والنسمات الرَّخِيَّة  ولذائذ كلّ الشوارع المطمورة والحانات والأسواق وصياح النوارس البيضاء، وتمايل الدفلى في حديقة بيت يوليوس بوليبيوس.                  

في "متحفِ نابولي" تساءلتُ أمام المنحوتة البيضاء التي أكادُ أسمع في قلبها الغامض دقّات الفزع والشهوة والرغبة والبكاء: "لماذا انحدرَ هاربا في تلك الظهيرة ووراءه الجحيم المنفجر؟". 

لأقُل إنّه كان أسرعَ من نهر الحِمَم، أو نهرِ الزمن الذي تحوّل إلى حِمَم وأدخنة وهزّات أرضية، وانضمّ إلى قافلة الأشباح الناجية من المدينة وفوقها يتساقط الرماد والظلام، لأقُل إنّه سيتذكّر في مكان آخر، روما مثلاً، هذا الغبار الهائل المعتم... إلى متى سيعيش؟ سنة... سنتين... أو مئة... ثم ماذا؟ ألَن تكون النتيجة واحدة: الموتُ في أيّ مكان يكون فيه؟ 

أنا مَن يراه الآن مِن مكاني هذا، زمناً مُصمتاً ومكاناً لا منفذ إليه، سواء أكان تمثالاً في متحف، أم كتلة متحجّرة سوداء، أم ذرّات في هذا الغبار الكوني الذي لا مهربَ منه، أنا الذي أراه من مكاني هذا سأقول ببساطة: النتيجة في كلا الحَالين، حال النجاة أو الموت، ستكون صفراً.

"أثمن شيء أن نفكّر بالحقيقي، بالملموس، بالحديقة الصغيرة". 

أفكّرُ بالشجيرات الصغيرة التي بدأتُ أزرعها، بعطش التربة التي احتاجت إلى السَّماد والماء، بصفوفِ الأشجار المتيبّسة، بالذاكرةِ التي تُحاول أن تتذكّر بصوتٍ مخنوق مقاطع أغنية، شظية من وجهٍ مألوف. يضطرب الجسدُ ويهتاج تحت وقع أصابع خيالاتِ الأمس. اليوم لا ينبع منه صدىً. الأشياءُ مُنتزعة من إطارٍ متخيّل، من مُجرّدٍ يغطي كلّ ما نلمسه ويخفيه أو يجعله نائياً.
 

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون