بول أوستر.. رواية أخيرة تُنذر بالموت

بول أوستر.. رواية أخيرة تُنذر بالموت

02 مايو 2024
بول أوستر أثناء مشاركته ضيف شرف في "معرض غوادلاخارا للكتاب" بالمكسيك، 2017 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- بول أوستر، الروائي والسيناريست الأمريكي، توفي عن عمر يناهز 77 عامًا بعد معركة مع سرطان الرئة، تاركًا وراءه إرثًا أدبيًا ثريًا يشمل 18 رواية تُرجمت إلى لغات عديدة، وكانت روايته الأخيرة "بومغارتنر" خلاصة تجربته الأدبية.
- "بومغارتنر" تعكس خمسة عقود من الحكمة السردية، مستخدمة تقنيات سردية معقدة وتعكس تأملات أوستر في الحياة والموت، وتأثير الزمن على الإبداع الفني، مستلهمة من أفكار متنوعة في الأدب والفلسفة.
- تقدم الرواية قصة مؤثرة عن الحب والفقد والذكريات من خلال شخصية بومغارتنر، الأستاذ الفخري في جامعة برينستون، معالجة مواضيع مثل الحنين والتأمل في الحياة والموت، وتُظهر كيف يمكن للفن والحياة أن يتقاطعا بطرق معقدة وجميلة.

نعم، هكذا كانت وهكذا قُرأت، على غرار شهادة نعي كتبها بطل الرواية لحياةٍ بدت وكأنّها تلوّح بنهايتها القريبة: ففي آذار/ مارس من العام الماضي، أعلنت الكاتبة سيري هوستفيت، زوجة بول أوستر، عن إصابته بسرطان الرئة.

وأوّل أمس الثلاثاء، عن سبعة وسبعين عاماً، أُعلن عن خبر رحيله (1947 - 2024)، في شقّته بحيّ بروكلين بنيويورك، متأثّراً بمضاعفات مرضه، كما أكّدت الصحافية والكاتبة جاكي لايدن نيابةً عن عائلته. وبين هذين الخبرين، بين الثماني عشرة رواية التي كتبها السيناريست والكاتب الأميركي بول أوستر، والتي تُرجمت غالبيتها إلى لغات عديدة، ستكون روايته الأخيرة "بومغارتنر"، والتي صدرت عام 2023 (وعربياً عن "دار كلمات" بترجمة سعيد البازعي)، مفاجِئة من حيث عمقها العاطفي وبساطة سردها.

تبدو هذه الرواية الأخيرة لأوستر كما لو أنّها تحتوي على كلّ ما أراد المؤلّف أن يدرجه من معجمه الروائي. فبعد اللعب بطبقات الخيال كلّها، واستكشاف حدوده الواقعية، تستخلص "بومغارتنر" خمسة عقودٍ من الحكمة السردية، على الرغم من أنّ الرواية كلّها لا تتجاوز 300 صفحة. مع هذا، من يعرف أوستر وأعماله، سيرى أنّ في  الرواية الأخيرة أصداء خفيّة للعديد من قصصه السابقة، فهو يحاكي فيها رقصة الموت الموجودة في "رحلات في حجرة الكتابة" (2006)؛ الرواية التي يودّع فيها أوستر شخصيّاته من أشباح الخلق الأدبي.

يلاحظ القارئ أنّ بطلَها نسخةٌ من مؤلّفه بأكثر من معنى

غاب أوستر بشكل كاملٍ في العام الأخير عن الحياة العامّة، فقد أثّر المرض عليه بشكل كبير. وقبل وقت قليل من تشخيص مرضه، رُصد مع كتّابٍ آخرين على درج "مكتبة نيويورك العامّة"، في حراكٍ داعم لزميله سلمان رشدي، الذي تعرّض وقتها لمحاولة اغتيال. بعد ذلك رافق الصمت الطويل أخباره، عدا بعض المعلومات المتقطّعة التي كانت تنشرها زوجته على "إنستغرام"، تتحدّث فيها عن حالته، محتفيّة بقوّته وقدرته على مقاومة المرض، إضافة إلى خضوعه لعلاج طبيّ مدمّر.

لم تكن صور صاحب "ثلاثية نيويورك" تبشّر بالخير، مما أثار تكهّنات حول وضعه، وأحاط صورته بالاهتمام والتعاطف. حتى ذلك الوقت لم يكن أوستر قد توقّف عن الكتابة يوماً واحداً.

الصورة
غلاف الكتاب

وكانت المفاجأة الهائلة، ربّما بالنسبة إليه أيضاً. فبعد انتهائه من "الفتى المشتعل: حياة وأعمال ستيفن كرين"، طالبه خياله بإعطاء الحياة لشخصيةٍ قد تكون واحدة من أكثر شخصياته المحبوبة، وهو السبعيني بومغارتنر، أستاذ الفلسفة الفخري في "جامعة برينستون". على الرغم من أن بومغارتنر يحتفظ باستقلالية شخصيّته، إلّا أنّ قارئ العمل سيلاحظ أنّه نسخة من مؤلّفه، بأكثر من معنى وبُعد وجودي، فهو شخص وصل متأخّراً إلى أعراس حجرة الكتابة، التي ليست إلّا مخيّلة بول أوستر نفسه. 

إنّها، إذاً، قصّة كاتب بارز وأستاذ جامعي، غريب الأطوار، بقدر ما هو رقيق بشكل لا يُصدَّق. شعور الحبّ العميق والدائم يجتاح حياته، وهو شعور سيرافقه تجاه آنا، زوجته، رغم أنّها ماتت منذ تسع سنوات. إنّه الآن في الحادية والسبعين من عمره، ومع ذلك يواصل النضال من أجل العيش في غيابها.

تبدأ قصّة الحبيبَين المشتركة في عام 1986، عندما التقيا كطالبين مفلسين في نيويورك. وعلى الرغم من كونهما متناقضين تقريباً في كلّ شيء يتعلّق بالحياة، إلّا أنّهما يبدآن علاقة عاطفية ستستمرّ لمدّة أربعين عاماً.

التغلّب على شعور الحزن بسبب فقدان الزوجة آنا هو الشعور الطاغي على الرواية كلّها، وهو المحفّز أيضاً للدخول في قصص أُخرى - من شبابها في نيوارك بنيوجيرسي، إلى حياة والدها كثوري فاشل في أوروبا الشرقية - كلُّ ذلك يتخلّله وصفٌ دقيقٌ وعميقٌ للأحوال والطرائق التي نُحبّ بها في مراحل الحياة المختلفة.

سيستمتع أوستر باستخدام تقنية الصناديق الصينية السردية القديمة، خصوصاً عندما يُدخل أيضاً في الرواية كتابات السيرة الذاتية لآنا، والتي يكتشفها بومغارتنر في صندوق، كما لو أنَّ الأمر متعلّق بمخطوطة تاريخية تمّ العثور عليها للتوّ. وهناك سيقرأها بومغارتنر بصوت عالٍ على القارئ "هناك في فجر الطفولة...".

تحتوي على كلّ ما أراد أن يُدرجه من معجمه الروائي
 

كلّ هذا سيسرده أوستر بأسلوب بديع، إذ سيبدو ذلك واضحاً من خلال اختراع أسلوب شخصيّته، الذي يروي حياته بضمير المتكلّم في النصوص التي تُظهر في هذه الرواية ذات المنظور المتعدّد، والتي تعكس بقايا تلك الألعاب الأدبية والمرايا الثربانتيسية التي تُغري المؤلّف والقارئ على السواء.

في أحيان أُخرى، يستغني أوستر عن ألعاب الحيلة التي تُميّز لحظات أُخرى من حياته المهنية، حيث تجتمع مجموعة من المؤثّرات معاً في الرواية، وقد يكون أكثرها وضوحاً هو تأثير هوستفيت، التي تتردّد أفكارها الفينومينولوجية في أفكار ولسان أستاذ الفلسفة. وقد يكون مثيراً للدهشة أيضاً تأثّره بالروائي الأميركي وكاتب القصص القصيرة فيليب روث (1933 - 2018)، لا سيّما في الصفحات المخصّصة لوصف حياة المجتمعات اليهودية في نيوجيرسي؛ وهو ما يأخذ القارئ مباشرة إلى روايات روث الخيالية التي تدور أحداثها في نيوارك. ولكن، لا شك أنّ الدهشة ستبلغ ذروتها، عندما يجد القارئ نفسه، أثناء تلمّس شعور الحنين الذي يتخلّل الصفحات، مدفوعاً بإيقاعٍ بطيء إلى تذكّر ومحاولة الإجابة عن ذلك السؤال الجوهري الذي طرحه إدوارد سعيد في كتابه "عن الأسلوب المتأخر": بأيّ صورة يؤثّر تراجُع الحياة أو التقدّم في السن على عمل الفنان؟ 

"بومغارتنر" التي كتبها أوستر أثناء معركته ضدّ السرطان تدمج في طقوس كيميائية مدهشة بين المؤلّف والبطل. فهذا الأوّل يصارع مرضاً يصعب الشفاء منه، وذاك الثاني يحاول أن يتجنّب سنّة الحياة، أي الشيخوخة، مكافحاً من أجل حياة مستدامة "نبضها وراحتها الذكرى"، كما يقول أوستر، في إشارة إلى بيت شعري لـ مالارميه. 

في نهاية الرواية، تصطدم سيارة بومغارتنر بشجرة، وهو يحاول تجنُّب غزال جاء في طريقه في منتصف الليل. يراه القارئ يخرج من السيارة ويسير باتجاه أضواء منزل مجاور. بهذا المعنى تُقرأ الرواية وكأنّها نعي، وكأنّ أوستر يخبرنا أنّ الشخص الوحيد الذي يحقّ له أن يودّعه من هذه الحياة هو نفسه. لم يستطع بول أوستر، ولم يعرف كيف يتوقّف عن الكتابة إلى أن جاء إليه  بومغارتنر. وهكذا قرّرا أن يغادرا هذا العالم معاً.

المساهمون