المعرفة الغربية في خدمة الإبادة

المعرفة الغربية في خدمة الإبادة

04 يناير 2024
من تظاهرة مُندّدة بالإبادة في إحدى ساحات واشنطن العاصمة،31 كانون الأول/ ديسمبر2023 (Getty)
+ الخط -

ربّما لم يُدرك كثيرون ممّن يدرسون العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، أنَّ هذه العلوم ليست بريئة، وليست "حاضنةَ نُبلٍ" كما يتمُّ تصويرها في كثير من الأحيان. عندما كنّا ندرس عن نيتشه وميشيل فوكو وغيرهما، وهُم يتحدّثون عن سطوة القوّة في العلاقات والبُنى البشرية كلّها، كُنّا نظنُّ أنَّ هناك مبالغة ما. ولم نُدرك أنَّ القوّة فعلاً لها الغَلبةُ على القِيم، وخصوصاً في حضارة الغرب، بل هي التي تُحدِّد القِيم - إن وُجدتْ - في عالَمٍ تتربّعُ على عرشه وسائل إعلام وشركات رأسمالية أنغلوساكسونية وصهيونية، تسحقُ البشر والبشرية من أجلِ ديمومة جشعها وجريمتها وحياتها، على حساب المُعذّبين الأبرياء في هذا العالَم، من غزّة فلسطين إلى العراق وسوريّة وأفغانستان وغيرها.

وهذه النظريّات تُطبَّق فعلاً على البُنى المجتمعية الغربية، حيثُ البرجوازية تسحقُ الجميع، من الذين ينامون على أرصفة الطُّرقات في لندن، إلى الذين يبحثون عن كسرة خبزٍ في غزّة، وهذا التشبيه مجازيّ وتعبير عن الغضب أكثر من أن يكون واقعيّاً بشكلٍ حَرفي، فشتّان بين أهل غزّة المقهورين من الإجرام الصهيوني الغربي وبين مُشرَّدي لندن.

أطرحُ هذه المقدّمة للحديث عن معنى المعرفة والدراسة، في ظلّ حرب الإبادة التي تشنُّها "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة والضفّة الغربية، وعلى ضوء تبلُّد العالَم وفُرجتهِ، إزاءَ ما يحدثُ من إنهاك وانتهاك للإنسانية بكافّة صُورها. فقد عوّدتنا الجامعات الغربيّة وأقطاب التدريس فيها، أنَّ المعرفة يجبُ أن تكونَ مُنزَّهة عن السياسة، وأنّ النُّبل التعليمي يَكمُنُ في تجاوز الأيديولوجيا نحو الموضوعية والتفكير المنطقي والتحليلي والنقدي للأمور، كي تكون النتائج والاستخلاصات خالصة لوجه العِلم والتعلُّم والرُّقيّ الفِكري والحضاري.

أكاديميات "عريقة" تخرّج منها القتلة ومجرمو الحروب

ولعلَّ المفكّر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد كان أكثر من ربَط المعرفة بالسياسة، مُبيِّناً خدمة المعارف الإنسانية والاجتماعية وغيرها للمشروع الاستعماري الغربي، ونرى ذلك اليوم، بشكلٍ فاضح، في غزّة. 

آه كم كانت "المعرفة الخالصة" كذبة! وكم ستتكالبُ الأمّم على أجساد وأرواح غزّة، وكم سيصمتُ كثيرٌ من أساتذة الجامعات، ويبرِّرون المجازر اليومية والانتهاكات الجهنّمية التي ترتكبها "إسرائيل" في غزّة، وكم سيناقشون بـ"حِياديّة" قناتَي "بي بي سي" البريطانية، و"سي أن أن" الأميركية، عمليةَ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر. وكم سيُمحّصون في كذبِ المنظومة العسكرية الإسرائيلية المُمنهج، وكذب نتنياهو وبايدن وسوناك وشولتز، وكلّ هؤلاء سيِّئي الذِّكر. وكم ستأخذُ الكذبة الواضحة والإجرام الكبير حيّزاً للتمحيص والتفكير والتشكيك وإلقاء اللَّوم على الشعب الفلسطيني المنكوب، حتى يضيع المعنى وتنطفئ الحقيقة تماماً في عقول الناس المُنشغلين بإيجارات البيوت وغلاء الأسعار ومطاحن البيروقراطية في الدُّول الحديثة. 

وجزءٌ من الناس فعلاً مغيّبون، يصدّقون ويصمتون ويدعمون حكومات الإجرام، لأنّهم لا يعرفون كيف يُفكّرون خارج قوالب مرتكِبي المجازر بالجُملة. مفجعٌ أن يكونَ الإنسان جزءاً من دولةٍ مُجرمة، تُمارس وتصدر الإجرام باسم "الحضارة والرقي"، بينما هي برميلُ عفنٍ إلى آخر طبقات الكون.

دعوني أزعم، وقد سئمتُ من مَزاعم المعاهد الغربيّة، وهيلمات المؤسّسات الشرقيّة التي تتبعُ الحاكم المُتخلّف في أغلب الأحيان، إنَّ الرُّقيَّ والسموَّ الفكري والأخلاقي يوجدُ بشكلٍ أكبر عند المجتمعات المقهورة والمغلوب على أمرها، وعند مَن يتَّكِئ منها على منظومات أخلاقيّة، فيها عاداتٌ وتقاليد ونُظم دينية تضعُ حدوداً لتصرُّفاتِ أفرادها وتضبطُ العلاقات بينهم، بمنأىً عن الأحاسيس الفرديّة المائعة، والتي لا حدَّ لحساسيّتها المُفرطة أحياناً. 

ولا أقصد أنّ هذا الرُّقيَّ وهذه الأخلاق موجودة بشكلٍ مُطلَق، وعند كلِّ فرد في مجتمعات المعذَّبين في الأرض، ففي هذا سذاجةٌ ورُضوخٌ لذهنيّة القَبيلة وتفكير العِرقيّات المُنكفِئَة على نفسها. هذه المجتمعات الأخيرة يُوجد فيها، أيضاً، مصّاصو دماء وسفَلة من طرازٍ دَنيء، لكنّها كمُجتمعات (والمجتمع الفلسطيني بالرغم من كلّ ما فيه، يبقى مُجرّدُ مثال) أخلاقيّة وخلّاقة لدرجة عالية في تفكيرها الجَمعي غالباً، صادقة في كُرهها للظُّلم، وفي الصبر على مقارعته، والتضحية الجَسيمة والمُكلِفة في سبيل ذلك.

أعودُ لزعمي الذي لا يملأُني إلّا بالإحباط، وأقولُ إنّ التعليم الغربي تعليم يحطُّ من شأنِ حيواتٍ ويرفع أُخرى، إنّه تعليم يعلِّمُ الكذب ويُقدّمهُ كمهارة يجبُ تعلُّمها واحترافُها بصورةٍ لا لبس فيها، حتى يتصدّر المشهد أمثال بوريس جونسون وطوني بلير وجورج بوش وبايدن وأوباما، وغيرهم ممّن يَلبسون البِذلات وأحدث أنواع الأحذية، لـ"يُلبِسوا الحقَّ بالباطل"، حسب التعريف القرآني البليغ.

انقلابٌ على مقولة "المعرفة المُنزَّهة عن السياسة"

أليس الكثير من مُتحدّثي جيش الاحتلال الإجرامي، ومُتحدّثي الوزارات الخارجية والحكومية الأميركيّة والأوروبيّة من خِرّيجِي أرقى الجامعات الغربية، كـ"هارفارد" و"ييل" و"أكسفورد"؟ أليس هؤلاء هُم الذين يُصمّمون على المجزرة ضدَّ الشعب الفلسطيني ويبرّرونها ويدعمونها بالسلاح؟ ممّن قرأوا زُبدة المعارف الغربيّة في مكتبات تلك الجامعات، ودرسوا مجالات السياسة والاقتصاد والفلسفة، وغيرها من المعارف "الرفيعة". مَن هُم الذين يصنعون الأسلحة التي تُحدِث نكباتٍ من طراز جحيميٍّ فوق رؤوس الأطفال والنساء في غزّة وتشوِّه أجسادهم؟ إنّهم خرّيجو المعاهد "الأرقى" في العالَم، من الناحية التقنيّة، وطُرق كلامهم تُشبه صناعة "الكِيك" من ناحية دقّتها وتسلسُلها وتغلغُها في لَيِّ أعناق الحقيقة، لتبرير أسوأ أنواع الجرائم ضد البشرية.

وحتى لا نُصاب بالعَمى، هناك خرّيجون نُبلاء تخرّجوا من هذه المعاهد والجامعات وأفادوا البشريّة بشكلٍ تُرفَع له القبَّعات، وتنحني له الهامات. لكنَّ هؤلاء مغيّبون عن المشهد السائد المُؤثِّر، ويُظلَمون ويُلاحَقون في وظائفهم وسُمعتهم وأرزاقهم، وأمّا القتَلة من السياسيّين خرّيجي الجامعات الأرقى في العالَم فيتقدّمون ويتصدّرون المشهد، ويتحدّثون باسم الحضارة الغربية وقيمها، وتستمرُّ المجزرة والمَهلكة في غزّة.

إذاً نحنُ أمام تناقُضات تطفحُ بها عواصم الغرب، حيث لدينا القلائل من العُلماء والمفكّرين الذين يُناصرون الحقّ، وتدمعُ أعينُهم ويجرح مشهدُ الظّلم خيالاتهم، في مقابل وحوش بشريّة على شاكلة الحكّام والسَّاسة الغربيِّين والمُتحدّثين الرَّسميّين المُجرمين قولاً وفعلاً.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

المساهمون