"التفكير بالعلوم الإنسانية": يومان عربيان في باريس

"التفكير بالعلوم الإنسانية": يومان عربيان في باريس

03 فبراير 2023
المدخل الرئيسي لـ كولّيج دو فرانس في باريس (Getty)
+ الخط -

لا نعرف ما الحال الذي كانت ستكون عليه العلوم الإنسانية والاجتماعية العربية لو لم تخرج شعوبٌ عربية إلى الشوارع والساحات لتطالب بالحرّية والعدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بدءاً من نهايات 2010. صحيحٌ أن الضاد لم تكن غريبةً على الإنتاج المعرفيّ قبل الربيع العربي، إلّا أن هذا المنتَج، في مجمله، كان يعاني من عددٍ من المشكلات التي أصابته قلباً وقالباً. ومن هذه المشكلات يمكن لنا أن نذكر، في المقام الأوّل، قلّة الاشتغالات في العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ وتناثر المشاريع، التي ظلّت لعقود مشاريعَ أفراد لا مشاريعَ بنى ومؤسّسات، إضافة إلى "اغتراب" كثير من هذه الأعمال عن قضايا الناس وهمومهم، وبقائها وفيّةً للسياسات الحكومية وأفرعها الثقافية ــ على قلّتها.

ولعلّه لا يخفى على المتابع لهذا المشهد أن انعطافةً ما حدثت منذ الثورات العربية. حيث خرج كثيرٌ من الإنتاج المعرفي من قبضة المؤسّسات الرسمية، بالتزامن مع ظهور مراكز أبحاث ومشاريع جماعية مدنية أو جامعية أو مستقلّة، أخذت على عاتقها مهمّة التشبيك وتوجيه المجهودات الفردية ضمن رؤى جامعة، ولعبت دوراً في تكثيف المنشورات ورفع الإنتاجية. كذلك فإن الكثير من الباحثين، ولا سيّما الشباب، باتوا أكثر اهتماماً بمشاغل الناس اليومية وبالتغيّرات التي يعيشونها والقضايا التي تواجههم.

كلّ هذه التغيّرات جعلت من العلوم الاجتماعية العربية مسألةً تستحقّ الدراسة في حدّ ذاتها، وهو ما يسعى إليه مؤتمرُ "التفكير بالعلوم الإنسانية والاجتماعية في العوالم العربية: إنتاج المعارف وتداولها وتلقّيها المُعاصِر"، الذي يُقام في "كولّيج دو فرانس" بباريس يوم الأربعاء والخميس المقبلين، الثامن والتاسع من شباط/ فبراير الجاري، بتنظيم من فرع "المركز العربي للعلوم والدراسات السياسية" في باريس، و"كرسيّ تاريخ العالَم العربي المعاصر" في "كولّيج دو فرانس". مؤتمرٌ تُشارك فيه مجموعةٌ من أبرز الأكاديميين والباحثين المشتغلين في العلوم الإنسانية العربية، أو تلك الغربية المهتمّة بأحوال العالم العربي.

يلقي المفكّر العربي عزمي بشارة محاضرة المؤتمر الافتتاحية

بعد كلمةٍ ترحيبية من المؤرّخ الفرنسي هنري لورانس، الذي يشغل "كرسيّ تاريخ العالَم العربي المعاصر" في "الكولّيج"، يُفتَتح المؤتمر بمحاضرة افتتاحية يلقيها المفكّر العربي عزمي بشارة، المدير العام لـ"المركز العربي"، عند التاسعة والأربعين دقيقة من صباح الأربعاء المقبل، تليه سلسلةٌ من المداخلات التي تستمرّ حتى السادسة مساءً. وتتمحور هذه المداخلات بشكل أساسي حول قضيتين: راهن العلوم الاجتماعية العربية (كما في الأوراق التي يقدّمها، على سبيل المثال، الأكاديميون ساري حنفي، أستاذ علم الاجتماع في "الجامعة الأميركية ببيروت"، وإليزابيث سوزان كسّاب، أستاذة الفلسفة في "معهد الدوحة للدراسات العُليا"، وعبد الوهاب الأفندي، أستاذ العلوم السياسية ومدير "معهد الدوحة" بالوكالة، وريغاس أرفانيتيس، أستاذ علم الاجتماع والاقتصاد ومدير "معهد دراسات التنمية" في باريس) وأحوال النساء والنسوية والجنسانية والجندر عربياً (كما في مداخلات كلّ من سونيا دايات هيرزبران، أستاذة علم الاجتماع في "جامعة باريس ـ ديدرو"، وهدى الصدّة، أستاذة دراسات العالم العربي في "جامعة مانشستر"، وزهراء علي، أستاذة علم الاجتماع في "جامعة روتجيرز" الأميركية، ورولا الحسيني، الأستاذة في "مركز دراسات الشرق الأوسط" في "جامعة لوند" السويدية).

وتتوزّع مشاركات يوم الخميس على محورين أيضاً: أوّلهما الترجمة، التي يتحدّث حولها الباحثون والأكاديميون لميس عزب، وريشار جاكمون، ونبراس شحيّد، فيما يتناول آخرَ محاور المؤتمر -أي العلاقة بين العلوم الإنسانية العربية والفضاء الرقمي- كلٌّ من محمد بن رمضان، وديفد رايسلي، وعز الدين البوشيخي. 

وإذ يبدأ النصّ التقديمي للمؤتمر بالإشارة إلى أن اهتمام العلوم الإنسانية الغربية بالعالَم العربي يعود إلى القرن الثامن عشر، فإنّه يذكّر بأن المقاربات التي اعتمدها أغلب الباحثين والمستشرقين الغربيين، حينها، ظلّت عرضةً لمثلبَيْن اثنين: إمّا إسقاط واقع وقيَم المجتمعات الغربية على المجتمعات العربية، دون أخذٍ بالاعتبار للاختلاف بينهما، أو تبنّي الباحثين الغربيين لخطاب المجتمعات العربية حول نفسها، كما رأينا في العديد من كتابات المستشرقين. مزالق يُخبرنا التقديمُ أن الأبحاث الغربية تجاوزتها، بشكل عام، بفضل المقاربات المقارنة بين المجتمعات.

أوراق عن أحوال البحث الاجتماعي والنسوية والترجمة والرقمي

على أن اندلاع الثورات العربية سيدعو إلى "إعادة تقييم" هذه المقاربات الجديدة نفسها، خصوصاً أن المعارف التي أنتجتها لم تسمح بالتنبّؤ بالثورات الشعبية، ولا بتقديم فهمٍ فوريّ لها. فهمٌ كان يمكن الوصول إليه على المقلب الآخر، أي في الأبحاث التي راح يضعها باحثون وباحثات عرب بعد الثورات، التي تميّزت بأنها كانت "أكثر انخراطاً في الواقع" ممّا كان عليه الحال قبل الثورات، بحسب التقديم. على أن هذا التمايُز لا يعني قطيعةً مع الاشتغالات الغربية. بل على العكس، يقول لنا منظّمو "المؤتمر". أي إن حالة العلوم الإنسانية العربية لا يُمكن لها أن تُفهم خارجَ سياق علاقتها بالمعارف الغربية، وهو ما يُشير إليه العنوان الفرعي للفعالية عندما يتحدّث عن تداوُل المعارف وتلقّيها، إضافة إلى إنتاجها.

ويخصّص المؤتمر قسماً من برنامجه للبحث في اقتصاد البحث الاجتماعي وعملية تمويل بعض مراكز الأبحاث من الخارج، مثل "المجلس العربي للعلوم الاجتماعية" في بيروت، الذي تموّله "مؤسّسة فورد" و"مركز أبحاث التنمية الدولي" في كندا، وهو المركز الذي يخصّص له الباحث محمد باميه ورقةً يقدّمها في مداخلته عصر الأربعاء. وينوّه المنظّمون بتجربة "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، الذي "مهّد الطريق لشبكاتٍ جديدة من الجامعيين"، والذي يُعَدّ من "المبادرات المموّلة والمُدارة بشكل حصري من قِبَل فاعلين عرب"، كما نقرأ في بيان المؤتمر.

المساهمون