أمير تاج السر في "حديث الألف".. استعارة جرثومة الكتابة

أمير تاج السر في "حديث الألف".. استعارة جرثومة الكتابة

06 ابريل 2024
سمر يزبك وأمير تاج السر (معتصم الناصر/ العربي الجديد)
+ الخط -
اظهر الملخص
- أمير تاج السر، الروائي السوداني، يمزج بين الواقع والخيال في أعماله، مستخدمًا تجاربه الشخصية والتاريخية لبناء عوالم روائية تجذب القراء.
- يعتبر الكتابة عملية إبداعية تتطلب الصبر والتأمل، مستلهمًا من مهنته كطبيب وتجاربه لخلق شخصيات وأحداث تترك أثرًا عميقًا.
- يركز على أهمية الحكاية الشفهية والخيال في الكتابة، مؤكدًا على إعادة الكتابة والتجديد في أعماله لتقديم رسائل يمكن أن تُعاد صياغتها بأشكال جديدة.

لا ينشغل الروائي السوداني أمير تاج السر (1960)، بالفصل القاطع بين عوالم السرد الروائي والسيري والشفاهي، والحقيقي والخيالي. حتّى أنَّ قرّاء أعماله التي تفوق الثلاثين كتاباً تعوّدوا الترحال معه محمولين على حكايات تتناسل في عمارة سردية لا يهمّ أن نعرف أين الحقيقي فيها وأين الخيال.

كان لقاء الأربعاء الماضي من "حديث الألف"، الذي تقدّمه شهرياً من الدوحة الكاتبة سمر يزبك، تجوالاً في سيرة ورؤى الكاتب وهو الذي انغمس في الكتابة الروائية منذ "كرمكول" 1988، هذا الانغماس الذي لا يجد له أوفى من وصفه بـ"جرثومة الكتابة".

وهذه الاستعارة لا تبدو قادمة من معجمه المهني بوصفه طبيباً، بل من الحالة المرضية التي تنتاب الكاتب بإرادته، حتّى أن كلمة "العدوى" الإبداعية وهي من مشتقات العالم الجرثومي تصبح استعارة، تشير بدورها إلى حاجة نسعى إليها بضراوة. وقد لا يعرف القارئ أنَّ غالبية المُنتَج الكتابي لتاج السر خلال ثلاثة عقود مضت كُتبت في مكان لا يبعد عن الأمسية التي عقدت بمكتبة "ألف" سوى دقائق قليلة بالسيارة، في فندق قديم وسط الدوحة. يحمل الكاتب حقيبة اللابتوب نحو ركن جانبي من البهو، وهناك يمضي الساعات، حيث تبدو هناك حركة الناس مؤنسة ولا تستبيح عزلته.

رواياتٌ وكتب لا نعرف أين الحقيقي فيها وأين الخيال
 

باتت الكتابة بالنسبة إليه مهنة تتقاسم زمنه ومسؤولياته الاجتماعية والمهنية في حقل الطب. وحين يُصاب بالتّعب الجسدي والنفسي فإنّما كما يصف لنا يكون قد عثر على بداية خيط رواية جديدة. "تسجنني وتصبح حتى علاقتي بعائلتي عصبية، وتقلّ عندي ساعات النوم، إلى أن أنتهي منها".

هذا طقس كتابيٌّ حقيقيٌّ سيصيب بالعدوى رواية "صائد اليرقات" (2010)، ومباشرة ستصيب عبد الله حرفش الملقّب بعبد الله فرفار، وهو رجل أمن متقاعد يريد ركوب الموجة فيصبح روائياً، كالروائيين الذين لديهم طقوس الكتابة في المطارات وفي المراحيض العامة أو متأنقين كأنهم ذاهبون إلى مناسبة رفيعة.

سنوات طويلة تفصل بين الحقيقي والاستدعاء الملحّ الآن لكتابة رواية عن رجل أمن عرِفَهُ فعلاً، وقد بُترت ساقه في حادث سير عام 1991 أيام عمل تاج مساعد جراح في بورتسودان، المدينة الساحلية على البحر الأحمر، وقد أصبحت الآن عاصمة بديلة للخرطوم، بعد اندلاع الحرب المدمرة في إبريل/ نيسان 2023.

هذا رجل أمن يكتب التقارير الأمنية، وهذا روائي يتخيل. ثم هذا الخيال سيستلف من الواقعي أسلوب الأسماء المرمّزة بالحروف الأولى، وهي التي تستعمل في كتابة التقارير أو نطالعها في صفحات الجريمة في الصحف. سيكون عبد الله باسمه الكامل أو مرمّزاً وسيكون كاتب الرواية داخل الرواية هو ذاته أمير تاج السر بحرفين "أ. ت".

الصورة
(معتصم الناصر/ العربي الجديد)
(معتصم الناصر/ العربي الجديد)

الحقيقي والتاريخي والواقعي هو ادعاء الجميع تجاه ما يرونه كذلك. والفيصل في هذا هو أن تصدق القول تصديقاً إبداعياً. فلنقل مثلاً إن تاريخاً ما وقع أمام الكاتب، ولمعت منه فكرة الكتابة الأولى. إلّا أن تاج السر يجد متعته كما أفصح في اللقاء عبر الكتابة الثانية التي يقدم فيها ويؤخر ويكتب رواية تبدأ من المنتصف، ويعمّقها وينسل الحكايات من بعضها على طريقة ألف ليلة وليلة، فيصبح السودان جغرافيا خاصّة وبشرُها يشبهون بالمصادفة من اضطلع السرد بخلقهم.

قرأت سونيا الوافي المذيعة في "التلفزيون العربي" ثلاثة مقاطع روائية بدأتها برواية "شمشون وتفاحة" (2020)، وكانت مناسبة لطرق باب كتابة الرجل رواية نسائية. وقال تاج السر إن رواية "زهور تأكلها النار" (2016)، أيضاً كانت المرأة فيها تحكي الحكاية، وهو يحيل نجاح التجربتين إلى خبرته طبيباً لسنوات في قسم النساء، ما أكسبه معرفة في الخفايا النفسية والفسيولوجية والتشريحية للمرأة ساهم في كتابتهما بارتياح.

من خارج الكتابة السردية يمكن الابتعاد عن بؤرة النص فتتضح الرؤية من زاوية أبعد. فهناك كتاب "ذاكرة الحكائين" (2015)، متضمّناً مقاربات تأملية في الكتابة وتحولات المشهد الثقافي العربي.

ورداً على ملاحظة سمر يزبك بشأن وصفه بعض كتابات ما بعد ثورات الربيع العربي بالمتعجّلة، قال إنّ رأيه جاء في مقالة عقب السنة الأولى من هذه الثورات التي، شأنها شأن الأحداث الكبرى، ينبغي أن تُؤخذ على مهل حتى يمتصّ الكاتب تداعياتها، ضارباً في ذلك مثلاً رواية الطاهر بن جلون "بالنار" عن الشاب التونسي محمد البوعزيزي الذي أضرم النار بجسده، وصدرت رواية على عجل وقد ترجمت عن الفرنسية وملحقة بكتاب بن جلون "الشرارة.. انتفاضات في البلدان العربية".

غير أن ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018 في السودان والتي استمرت حتى آب/ أغسطس 2019، ألّهمت أمير تاج السر رواية "غضب وكنداكات"، وبطلتها كنداكة الثورية الشعبية المعاصرة المستلهمة من الكنداكات الملكات المحاربات في حضارة كوش القديمة. فلماذا جاز هنا ولم يجز هناك؟

في حال الكتابة الراهنة لحدث ما زال جارياً أو انتهى للتوّ، قد لا يكون الحكم عليه بإطلاق تعميم على كل منجز. ولربما يجدر في هذا السياق تذكّر مقولة الشاعر محمود درويش عن "الشعر الضروري"، الذي يقال حاراً في لحظة حارة، بما يمكن أن ينسحب على السرد، وإن كان الشعر أقدر على هذه المهمة. ويبقى الحكم في النهاية على قيمة المنجز سواء كتب الآن أو بعد حين.

"ذاكرة الحكائين" تنظر إلى الكون بوصفه خيوطاً حكائية ملضومة، هذا إذا كنتُ جالساً على كرسي في الحوش، ولكَ أن تراه دوائر مائية متلاحقة إذا ألقيت حصاة في بركة ماء في البرية. الكل يحكي، وحين يرى الكاتب تاج السر أن "الحكاية الشفهية هي عظم الكتابة المكتوبة" فإنه لا ينقلها شفاهة، لأن الكل يفعل ذلك، بل يكون خياره إقامة حجم سردي بروح أعمق وتشييده بالخيال والقراءة الثقافية.

الأحداث الكبرى تُؤخذ على مهل حتى يمتصّ الكاتب تداعياتها
 

الطفل مؤمن الذي سأله في العيادة إن كان وهو في عمره يكذب كثيراً، طالباً تفسيراً عن كتابته كلّ هذه "القصص"، هو لم يقرأها بسبب صغر سنه، لكنه سمع تقييماً من الكبار يربط الكتابة بالكذب. هذا لا يزعج الراوي، فهو كما قال كان متعاطفاً مع "الكذابين" الذين لم يؤذوا أحداً بكذبهم بل مارسوا في السرد ما مارسه العرب أيام كان الشعر ديوانهم فقالوا "أعذب الشعر أكذبه".

هؤلاء "الكذابون" وجدوا أنفسهم مستمتعين بإنشاء سرديّاتهم الشفوية المغرقة في الخيال، والتي تتوهم وتفلح في إقناع البعض بصدقية هذا الوهم، كما في نموذج ساقه تاج السر عن شخص لم يغادر السودان في حياته، لكنه يحكي للناس عن علاقته بفنانين مصريين ومنهم "عميد المسرح العربي" يوسف وهبي، بل وعداوتهما بسبب التنافس على امرأة.

بالخيال المحض يأتي الروائي، كما أضاف في السياق في إحدى رواياته، بأمراض هو من اخترعها واخترع علاجاتها. هذا العالم الموازي هو ما يسير فيه وهو عالم أسوأ من الواقع كما يصف، ولكنه ينساق إليه بكامل وعيه الفني. أخيراً تطرق الروائي إلى رواية "طقس.. عندما تخرج الشخصيات من صفحات الرواية" (2015)، وهي تحكي عن شخصية خرجت من رواية كتبها الكاتب فوجدها فجأة أمامه بمواصفاتها نفسها.

وفي منحى قريب من هذه اللعبة، يقرّر الكاتب عكس العرف الذي يقول إنَّ الكتابة حين تصدر فإنّما تكون كالرصاصة تخرج ولا تعود. وهذا حق من النادر أن تجد كاتباً في العالَم لا يدافع عنه. فكما من الحق التنكّر لتجارب أولى بدت لصاحبها غير ناضجة، فإن الرصاصة المدّعى خروجها مرّة واحدة وللأبد تجد نفسها عائدة مرّة أخرى، إلى صاحبها الذي يؤكّد أنها أصلاً لم تكن رصاصة، بل رسالة عادت لمرسلها.

ولديه تجربتان في روايتين قرّر بعد سنوات إعادة فتحهما من جديد والاشتغال عليهما بروح جديدة، كما وقع في رواية "صيد الحضرمية" (2001)، التي عادت لتصدر في 2014 بعنوان "اشتهاء"، مع تصدير يوضح ذلك، ولم تستطع دخول مسابقة للرواية، لكنه عاد مرة مع  جائزة البوكر عام 2015 وقدم لها رواية "منتجع الساحرات"، من دون تصدير ووصلت إلى القائمة الطويلة، كما أخبرنا وقال إنه لأول مرة يصرح بذلك.

المساهمون