نصف أبناء مدينتنا "مساطيل"

نصف أبناء مدينتنا "مساطيل"

20 فبراير 2023
+ الخط -

حدثني صديقي "أبو عناد" عن اضطراب العقل والضَيَاع. قال إنه يرى نصفَ أبناء الشعب، في مدينتنا، (مسطولين)، ولكن، من حُسن حظهم أنهم لا يشعرون بذلك، بالعكس؛ هناك قسم كبير من المسطولين يعتقدون أنهم راجحو العقول، بل حكماء. هل تعرف أبو مسعود الطن؟

- نعم. أعرفه.

- كانت ابنته تحاول ضم الخيط بالإبرة، ويبدو أنها لم تكن ترى سم الإبرة (البخش) بشكل واضح، فقال لها: هاتيها لأشوف. ناولته الإبرة والخيط فأنجز الضم بسهولة. تصور، يا أبو مرداس، صار يتباهى على أسرته أمام الناس ويقول: لولاي أنا لا يوجد شخص واحد في عائلتي يعرف كيف يضمن إبرة بخيط! وبقي يتحدث في هذا الأمر حتى لقبوه: أبو إبرة بخيط.

قلت: ولكنك، يا أبو عناد تبالغ. هل يعقل أن نصف سكان بلادنا مساطيل؟

قال: نعم. ولعلمك أن أكبر مساطيل مدينة إدلب عبر العصور هو أنا، محسوبك أبو عناد.

- هه هه. تريد أن تقول إنك متفوق علينا حتى في ميدان البلاهة. هل لديك دليل على هذا؟

- لن أقدم لك دليلاً واحداً، بل عشرة، وإذا أردتَ أن تستزيد، أعطيك بضعة أدلة أخرى على البيعة. وسأبدأ من موضوع سيارتي "الستروين" العتيقة التي تنازلتُ عنها لأبو عبدو الماوردي، لقاء أقساط البنك التي دفعها بالنيابة عني، يومَ أعدتُ تربيتَه.

دهشت. سألته: كيف أعدتَ تربيته؟

قال: أنا لم أكن أعرف كيف، لكن أبو عبدو، بعدما أجبره البنك على دفع الأقساط التي كانت مترتبة علي، لأنه كفيلي، ومجموعها حوالي 3500 ليرة، وأخذ بدلاً عنها سيارتي التي لا تساوي أكثر من ألف ليرة، صار يجلس في المقهى، ويجمع حوله بعض معارفه، ويحلف لهم الأيمان المغلظة على أن والده المرحوم نسي أن يربيه، فبقي قليل تربية حتى جاء يوم أقدمَ فيه على الذهاب إلى البنك، وتوقيع كمبيالات قرض، بوصفه كفيلاً للكلب الواطي أبو عناد، يعني حضرتي، ومن هنا بدأت مرحلة تربيته الجديدة على يديَّ. ولأنه أصبح مربى بشكل جيد، فقد حلف يميناً معظماً آخر، على أنه لن يكفل أحداً في حياته، لا في البنوك، ولا في أي مكان آخر، وسيوصي سلالته كلها بعدم فعل الخير دون تدقيق. سيقول لسلالته:

- إذا كان فعل الخير يتجلى في كفالة واحد سافل، كلب، واطي، تافه، مثل أبو عناد جلد الضفدع حيدوا عنه. وحتى إذا طلب منكم رجلٌ طيب، آدمي، أن تكفلوه، فلا تفعلوا، نكاية بالحقير أبو عناد!

قلت: أبصم لك، يا أبو عناد، بالعشرة، على أنك معلم في القص، ليس أكثر من كل كتاب إدلب، بل أكثر مني أنا على الأقل. تفضل، أكمل.

- قبل أن تحصل مشكلة القرض، والكفالة، وإعادة تربية أبو عبدو، لم يعد دفش السيارة يجدي، لذا ركنتُها في الكاراج، وصرت أعتمد في تنقلاتي على رجليَّ، وإذا مر بي صديق يمتطي سيارة، أو موتوسيكلاً، ودعاني للركوب، كنت أركب دون تعلل، لأن المشاوير ضمن مدينتنا ليست كلها قصيرة، وأنا أعاني من ألم في الركبتين.. وذات مرة، ركبت مع "أبو سليمان البَقّاق" في السيارة، قلت له:

- إذا سمحت، خاي أبو سليمان، أوصلني إلى معصرة "الأخرس"، أختك أم عناد أوصتني على نصف كيلو طحينة، وتنكة حلاوة كشيشية، وأنا لا أرد لأم عناد طلباً.

قال لي: تكرم.

وبينما كان يقود سيارته باتجاه طريق المعصرة، قلت له:

- وقف، وقف.

فضرب فرامل، ووقف.

قلت له: غيرت رأيي. بدي أروح إلى طريق أريحا، هناك ابنتي فخرية تجمع نباتات الخبيز لكي تطبخها والدتها للأولاد، سأعاونها في جمع الخبيزة، وبعدها أعود معها إلى الدار.

الرجل أوقف السيارة، وغير اتجاه السيارة. وأنا غيرت عقلي مرتين أخريين، وفجأة أوقفها إلى يمين الطريق، وأطفأ محركها، وقال لي:

- عليّ الطلاق من زوجتي أم سليمان، لن أحرك سيارتي من هنا حتى تقرر أنت إلى أين تريد الذهاب بالضبط!    

ومن علامات الخبل والهبل و(الانسطال) التي ظهرت علي، أنني، أول مرة شاهدتُ فيها شباناً يدفشون سيارة، فكرت بأن من واجبي أن أساعدهم في الدفش، وساعدتهم بالفعل، وبعد هذه المرة صرت، بمجرد ما أرى سيارة تُدْفَش، أندفع نحوها، وأباشر الدفش، بلا تفكير، إلى أن حصلت تلك الحادثة التي حفظها أهل مدينة إدلب عن بكرة أبيهم، وصاروا يتندرون بها.

- إلا أنا لم أسمع بها. أي حادثة تقصد؟

- في ذلك اليوم، كنتُ راكباً في المقعد الأخير من الميكروباص الذي يسوقه أبو تيسير محو، وكان الممر مزدحماً بالركاب، على الواقف، وفجأة وقفت أنا، وصرت أصيح:

- هوب هوب، وقف لي شوي أخي أبو تيسير.

وصرت أدفع الواقفين في الممر، وأمر من بينهم، وكل الركاب اندهشوا، إذ لم يكن بينهم أحد يعرف ما الحكاية، وأبو تيسير أوقف الميكرو، وعندما وصلت إلى الباب، فتحه بضغطة على زر الفتح، وأنا نزلت، وصرت أركض باتجاه الجنوب، حيث كان عدة شبان يدفشون سيارة، ورحت أدفش معهم، حتى اشتغلت السيارة، فعدت إلى الميكروباص راكضاً، وصعدت، وقلت:

- روح أبو تيسير. الله معك.

سألني أبو تيسير: مين هو سائق السيارة المتعطلة الذي دفشتَه؟

قلت له: لا أعرف.

نط واحد من الركاب، وصاح غاضباً:

- أيش هالحكي؟ أوقفت الميكرو، وخليتنا ننتظر حضرتك عشر دقايق لكي تدفش رجلاً لا تعرفه؟!

طبطبتُ على كتف الرجل، وقلت له: صحيح أنا لا أعرف الرجل، ولكن بالتأكيد له عليّ دفشة. أنا كان عندي سيارة لا تشتغل إلا بالدفش، لأنني لا أمتلك ثمن بطارية جديدة، وخلال السنوات الماضية صدقاً لم يبق أحد من أهل مدينة إدلب وأريافها إلا ودفشني. وأنا لست قليل وداد حتى أتكاسل عن رد الدين لهم!

ضحكت وقلت لأبو عناد: الآن تأكدت أنك مسطول.

قال: طبعاً. ولو. ولكن تلك الحكاية بسيطة إذا قارنتها بحكايتي مع أبو كرمو البلابسي.

- احك لي.

- أنا، خلال الفترة التي كنت أقترض فيها من الناس، ومن كثرة ما تعرضت للمطالبة، والمجادلة، والتسويف، انسطلت.. ومرة كنت أمشي في الزقاق الذي يمر من تحت السيباط، وإذا بأبو كرمو البلابسي يمشي أمامي، وفجأة التفت، ورآني، فوقف، وتقدم مني، وقال لي:

- أهلين أبو عناد.

قلت له: أهلين أبو كرمو.. أخي؛ بالنسبة للنقود التي استدنتها منك، أبشر، قريباً ستأتيني دفعة، وستكون أنت أول واحد سأوفيه دَيْنه بإذن الله.

ضحك أبو كرمو حتى كاد يقع على الأرض، وقال لي:

- أيش بك أبو عناد؟ أنت بحياتك لم تستلف مني أي مبلغ!! 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...