نزهة الغروب (7): في سقوط الزينة عن شجرة الميلاد

نزهة الغروب (7): في سقوط الزينة عن شجرة الميلاد

25 ديسمبر 2023
+ الخط -

مُباركةٌ ليلة الميلاد. يُفترض بها أن تحمل الطمأنينة والغبطة إلى قلوب الناس. لكن، يحدث أن تعجز عن ذلك. يحدث ألا يكون الفرح متاحاً في بعض الأعوام، لأن الفرح إذا لم يكن مَشاعاً كان أنانية وعجزاً...

تشدو فيروز:
كنا نزيّن شجرة صغيرة ونعلق فيها أجراس
عليها نجوم بيلمع لونا بيلمع متل الألماس
مليانة تلج ومليانة ملبس أبيض بكياس
يا جراس وعي الناس للقداس
يا جراس الليلة عيد وعي الناس

مُباركة هذه الليلة، وقد ارتبطت بالألوان والترنيمات والهدايا تحت شجرة الميلاد التي مضت أيامٌ زيّنها خلالها أصحابُها، آملين في سعادة صغيرة يقتسمونها مع المقرّبين منهم، وأن يرسموا البسمة في وجوه أطفالهم بالهدايا، وقد أقنعوهم أن "بابا نويل" قد منحهم إياها مكافأة لهم، لأنهم كانوا أطفالاً رائعين طوال السنة. مباركة هذه الليلة، ولكن أطفالاً في غزة يقتلهم البرد والجوع، إذا لم تطلهم يد جيش الاحتلال بالقصف.

تسرد فيروز بعضاً من حكاية صاحب ليلة الميلاد:
الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان
يبكيان لأجل من تشردوا
لأجل أطفال بلا منازل
لأجل من دافع واستشهد في المداخل
واستشهد السلام في وطن السلام
وسقط العدل على المداخل

كأنها كانت تعرف -منذ أن صدحت بهذه الأغنية عام 1967- أن ليلة الميلاد ستأتي مراراً وأطفال فلسطين مُشرّدون. وفيما تضاء ملايين شجرات الميلاد بالكُرات الملوّنة والنجوم والصور، تنطفئ شجرة الميلاد أكثر في فلسطين. في بيت لحم، لم تزيّن هذا العام الشجرة التي تتوسط ساحة "كنيسة المهد". 

هكذا، يحتفل الناس في العالم بأعياد الميلاد إلا في فلسطين، حيث شجرة الميلاد الأولى، الشجرة الأم لكل احتفال لاحق. من يستطيع أن ينسى بأن كل شجرة من أشجار الميلاد المضاءة في العالم، تضرب جذورها في فلسطين؟ في الغرب تحديداً، كل شجرة في عواصمه جذورها ضاربة في فلسطين، هناك حيث لا يتواصل التقتيل الإسرائيلي إلا برعاية غربية. يا أيها التاريخ هلا أجبتنا عن سؤالٍ: لماذا يتورّط الغرب في خيانة هذه الشجرة التي استعارها من فلسطين؟

تتابع فيروز غناءها:
ليلة عيد.. ليلة عيد.. الليلة ليلة عيد
زينة وناس.. صوت جراس.. عم بترنّ بعيد
ليلة عيد.. ليلة عيد.. الليلة ليلة عيد
صوت ولاد.. تياب جداد.. وبكرا الحبّ جديد...

في موسم أعياد الميلاد هذه، ستعمل الألوان وأطايب المأكولات على إلهاء الناس عن فلسطين. لأيام، ستمنع ضوضاء الأفراح ضمائرهم من الوقوف أمام مرآة الحقيقة، قبل أن تعيدها إليهم الأرقام التي تحصي الشهداء كل يوم.

يعمل هذا الإلهاء كآلة صاخبة تعيد تشكيل البشرية. ولقد تحوّلت أعياد الميلاد منذ عقود طويلة إلى شبكة استهلاكية رهيبة، تنفتح معها شهية الشركات، من صناعة المأكولات إلى صناعة الترفيه، لتخلق خلال أيام معدودة تخمة من ملذات البطن والبصر والسمع. فهل يبقى بعد ذلك في نفوس البشر نصيب للعودة إلى العبر العميقة للكريسماس ودلالاته؟

تترنّم هنا فيروز:
عِتقِتْ سنين عيادهُن.. ما يَوم لِبسُوا جديد
وبَعدُن زغار ولادهُن.. يا عيد زُورُن يا عيد
روح زُورهُن بِـ بَيتهُن.. قِلُّن خِلِق يسوع

قد لا تكون لك في بيتك شجرة ميلاد، لانتماء إلى بيئة عقائدية أو ثقافية أخرى غير تلك التي تتبنى مواسم أعياد الميلاد، ولكنك تعرف أن ملايين الأشجار مضاءة هذه الليلة في بيوت كثيرة حول العالم. لذلك، سواء كانت ليلة الميلاد معتقداً عميقاً أو أسطورة جميلة فهي أحد المواعيد القليلة التي تضربها البشرية كي تشترك في شيء. كي تلتقي ولو رمزياً أمام مدفأة. 

هناك سجال أوروبي - أميركي عمّن وضع الصياغة المكتملة لاحتفالات أعياد الميلاد، من الشجرة المزيّنة إلى شخصية بابا نويل الذي سُمّي في "العالم الجديد" سانتا كلوز، وما هي إلا تنويعات وتفريعات على حكاية واحدة، ونعرف أن الحكاية الأم فلسطينيةٌ. وما هذا الترحال الحكائي إلا دليل على المشترك المنسيّ بين ثقافات يراد لها أن تتصادم. وحتى إذا لم تشترك في الاحتفال، فهذا الموروث الروحي يجمع بينها. 

صحيح أن ليلة الميلاد قد تعولمت وتنمّطت مع مرور القرون حتى باتت "شجرة" تخفي ثراء التقاليد الاحتفالية التي يفترض أن تتوارثها الأجيال، كما كانت في أحيان كثيرة أداة هيمنة ناعمة، لكن لا ضير أن تتحوّل إلى جزء من المخيال الجماعي العالمي. وها هي هذا العام تكشف المجرمين وتعزلهم أكثر، فحين تُفسد آلة القتل الإسرائيلية ليلة الميلاد في غزّة والقدس ورام الله والناصرة والجليل، فهي تُفسد روح البشرية قاطبة، لأن دولة الاحتلال بإصرارها على الحرب تجبر الجميع على ألا ينام هذه الليلة بضمير مرتاح.

وحين نرى إصرار الأنظمة الغربية على استمرار إسرائيل في القتل (واستمرارها أصلاً في الوجود) نعرف أن المصالح الجيوسياسية تتدخّل أيضاً في مواسم الأفراح والمسرات التي تضربها البشرية لنفسها.

هناك من يعمل على تزيين شجرة الميلاد لإسعاد من حوله، وهناك من يصرّ على إسقاط الزينة منها مانعاً كل من حوله من الفرح.

هنا، كانت فيروز تنهي إنشادها عن شجرة الميلاد:
"نقعد حتى نطلع فيها نلاقي في عليها قلوب
ميت طابة حمرا نفزع أنو توقع وتدوب
فوقا كارت صغير ملون وبقلبو في مكتوب
كل عيد وإنتو بخير أنتو بخير
كل عيد وبلدي بخير بلدي بخير".