من فصول "أبو عناد جلد الضفدع"

من فصول "أبو عناد جلد الضفدع"

12 ديسمبر 2022
+ الخط -

وعدتُ صديقي أبو صالح، في الاتصال السابق، أن أحكي له عن فصول بطل حكايتنا "أبو عناد جلد الضفدع" المتعلقة بالاقتراض، وكيف أنه أطلق على نفسه لقب "ملك الدَيْن والاقتراض".

قال: نعم. وذكرتَ لي أنه، في البداية، كان يقترض، وبعد مدة قصيرة يسدّد، ثم أصبح عاجزاً عن السداد إلا في حالة واحدة؛ وهي أن يعثر على صديق جديد، معه فلوس زائدة عن حاجته، يستلف منه، ليسدّد الدين المستحق عليه للدائن السابق، وهكذا.. 

- صحيح. ولكن، كان الشيء الجديد عند أبو عناد، في تلك الأيام، أنّ بعض الحارات والأزقة في مدينة إدلب، قد أصبحت غير آمنة بالنسبة إليه... حتى إنه كان يضطر لأن يضع مخططاً يوصله إلى مكان عمله في مديرية المالية، دون أن يلتقي بأيّ دائن... يتضمن المخطّط أن يمر، في بعض الأحيان، بجوار الحائط المهدم المتاخم لسور ثانوية التجارة، وهو طريق مسكون بالسحالي، والحرادين، والعقارب، وربما الأفاعي، والعبور منه كان يجعل قلبه يتوقف عن الخفقان لأكثر من دقيقتين، وفي كلّ لحظة كان ينفض كم بنطلونه متوهماً أنّ حشرة ما علقت به.. أضف إلى ذلك أنه كان يضع حول رقبته (حتى في أيام الصيف) شالاً صوفياً، ويتركه متدلياً حول رقبته، فإذا لمح أحد الدائنين قادماً من عمق الزقاق، يسارع إلى لف الشال حول وجهه، فلا يبقى ظاهراً منه سوى العينين، ويلجأ، من باب الاحتياط، إلى تغيير مشيته، فمرّة تراه يظلع، ومرة يضع الرِجْلَ اليمنى على الأرض، ويجرّ اليسرى جراً، بعد أن يرفع كم البنطلون إلى الأعلى، ليكشف عن ضماد وهمي كان يلفه على ساقه.

أصبح عاجزاً عن السداد إلا في حالة واحدة؛ وهي أن يعثر على صديق جديد، معه فلوس زائدة عن حاجته، يستلف منه، ليسدّد الدين المستحق عليه للدائن السابق

- هذا وضع مؤلم. كيف كان أبو عناد يحتمله؟

- يا سيدي، ربك، كما قال لي أبو عناد، لا ينسى أحداً من أفضاله. ففي ذات يوم، وبينما كان عائداً إلى البيت، شاهد اثنين من الدائنين قد كمنا له عند منعطف الزقاق المؤدّي إلى بيته، فخطرت له فكرة عجيبة نفذها في الحال: قرع باب دار ابن حارته "أبو مسعود"، فلما فتح له، قال إنه تأخر اليوم صباحاً عن الدوام، فخرج من الدار ناسياً مفتاح الباب الخارجي في الداخل، ولذلك يريد أن يصعد إلى السطح، ويمشي فوق أسطحة الجيران حتى يصل إلى داره، فينزل، وإن لم يفعل ذلك فسيضطر لكسر الباب، وأضاف:

- وأنت سيد العارفين، يا جاري أبو مسعود، كَسْرُ الباب، ثم إعادة إصلاحه وتأهيله، لا تقل تكلفتها عن عشرين ليرة سورية، ونحن الآن في آخر الشهر، ولا يوجد في جيبي سوى ليرة سورية واحدة، تتألف من مجموعة قطع معدنية من فئة الفرنك والفرنكين، تركتها في جيبي لسبب وجيه.

سأله أبو مسعود: ما هو؟

قال: أثناء المشي السريع تصطدم هذه القطع النقدية ببعضها البعض، وتصدر عنها خشخشة تؤنسني، وتؤكد لي أنني لست مفلساً تماماً.

ضحك أبو مسعود، وصحبه إلى الدَرَج، وقال له: بالتوفيق يا جار الرضا.

عندما وصل أبو عناد إلى الدرج المؤدي إلى داره، شاهد زوجته واقفة في الفسحة السماوية، تنشر بعض قطع الغسيل، فلما رأته شهقت، وسألته عن سبب مجيئه من هنا. قال: 

- كنت أظنك ذكية بما يكفي لتعرفي أنّ الشوق غلبني لرؤيتك، ولو أنني مشيت في الطريق العادي لتأخرت عنك خمس دقائق على الأقل.

كان إذا لمح أحد الدائنين قادماً من عمق الزقاق، يسارع إلى لف الشال حول وجهه، فلا يبقى ظاهراً منه سوى العينين

ضحكت، عندما أدركت أنه يمزح، وقالت:

- منذ ربع ساعة والباب يقرع، وأنا لم أفتح بناء على توصيتك. أريد أن أعرف إلى متى سنبقى محبوسين في الدار خائفين من فتح الباب لمن يطرقه علينا؟

وقبل أن يجيبها عن سؤالها، وقع بقربهما شيء صلب، تبعه أبو عناد ببصره، فإذا هو ملقط غسيل، ثُبتت بين فكيه ورقةٌ مطوية. فتحها، وراح يقرأ فيها: "افتح أبو عناد، لا تخف، أنا أبو سليمان". 

بسرعة البرق، هرع أبو عناد إلى سريره، استلقى على ظهره، وغطى نفسه بالبطانية، وقال لأم عناد: 

- افتحي له. وقولي له إنني مريض.

أبو سليمان، أقرب المقربين من أبو عناد، ويعرف كيف تدور الأفكار في رأسه، وقد قال له، ذات مرة: أنت يا أبو سليمان أمرك عجيب، طفران، وضعيف الهمة، وخَرْطَبيل، ولا تصلح للخل ولا للخردل، ومع ذلك لا يوجد أحد في إدلب إلا ويحبك، الميزة الوحيدة الموجودة فيك هي خفة الدم، ووالله لولاها لضربك الناس على رأسك بالصرامي.

- الضرب بالصرامي، يا حبيبنا أبو سليمان، نوعان، الأول مادي، والثاني معنوي. والصرامي، أيضاً، نوعان، جديدة تلتمع تحت ضوء الشمس، وعتيقة ممزقة كانت المرحومة والدتي تسميها "برطوشة"، وبالنسبة إليّ، الدنيا تضربني بالبرطوشة العتيقة.  

 - تستحق ذلك وأكثر. 

- ليش؟

- لأنك فوق فقرك، وطفرك، ومديونيتك المزمنة، كذاب، وممثل فاشل. أنا رأيتك، بعيني هاتين، تعبر من فوق سطح الجار أبو مسعود، وتقفز من سطح إلى سطح مثل السعدان. يعني لم يكن هناك ضرورة لأن تمثل عليَّ دور المريض. هيا انهض، وتعال لأحكي لك عن شغلة مهمة.

 هل شاهدت، خلال حياتك كلها أحد زبائن البنك عائداً من دوامه، فوجد البنك ينصب له كميناً في الزقاق فاضطرّ لأن يتابع طريقه إلى البيت عبر الأسطحة؟

كانت زيارة "أبو سليمان"، بالنسبة لأبو عناد، بالغة الأهمية، فقد حمل له اقتراحاً كافياً لأن يقلب حياته رأساً على عقب.. نحو الأحسن طبعاً. قال أبو سليمان لأبو عناد بعدما أبطل تمثيلية المرض:

- انظر يا صاحبي، الاقتراض من زيد وعبيد ونطاط الحيط ينطوي على قلّة قيمة للإنسان، وهو، من جهة أخرى، دليل على التخلف.

فتح أبو عناد عينيه حتى ظهر بياضهما، من فرط الدهشة، وقال: 

- تخلف؟ يعني برأيك يجب علينا أن نتوقف عن الاقتراض حتى نموت من الجوع؟

- لا طبعاً، ولكن، يجب عليك أن تغيّر نوعية الدائنين. أخي، من الآخر، أنت تأخذ قرضاً على راتبك من مصرف التسليف الشعبي، تدفع لدائنيك مستحقاتهم، وهكذا تنحصر ديونك كلها بالبنك. أنا أريد أن أسألك سؤالاً وجيهاً: هل شاهدت، خلال حياتك كلها أحد زبائن البنك عائداً من دوامه، فوجد البنك ينصب له كميناً في الزقاق فاضطرّ لأن يتابع طريقه إلى البيت عبر الأسطحة؟ هل تعرف واحداً من زبائن البنك يغلق على نفسه الباب، ولا يجرؤ أن يفتح لأحد؟

قال أبو عناد: خلص، وصلت الرسالة. اشهد علي يا أبو سليمان، أنا من هذه اللحظة إنسان حر طليق، وزبون بنوك من الدرجة الممتازة!

(للحديث صلة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...