ما قاله شيخي الحكيم عن غزّة وفلسطين

ما قاله شيخي الحكيم عن غزّة وفلسطين

02 يناير 2024
+ الخط -

شيخي رجلٌ طاعنٌ في السن، لكنه خَبَرَ الناس، وعَلِمَ تقلبات الزمان، وله في الحكمةِ باعٌ طويل، وأنا أزورهُ بين الفينةِ والأخرى لأتزوّدَ من حكمته. هو اليوم معتكفٌ في خلوته يتعبّد بالتفكّر، ويرى أنّ تلك العبادة أهملها كثيرٌ من الخلق. وهنا أوردُ بعضاً مما دار في مجالسه، خاصة حديثه لي عمّا يحصل في فلسطين اليوم وقطاع غزّة.

(1)

سألتُ شيخي: ما العمر؟

قال: العمر وعاء الزمن المتاح لنا حتى نعمل؛ فهو البُعد الذي نقطعه منذ الميلاد إلى الوفاة، كلٌ حسب ما قَدّر الله له من حيّز؛ فهذا يمتد عمره حتى يبلغ أرذله، وذاك تخطفه المنونُ في ريعان شبابه، ووليد يموت لحظةَ ميلاده، وهكذا تتفاوت الأعمار بين الخلق.

قلتُ يا شيخي: ما الحكمة في هذا التفاوت؟

قال: العمر رزق من صنف الأرزاق، يتفاوت الناس فيه كتفاوتهم في أرزاقهم، وخير الناس مَنْ طال عمره وحسن عمله، وشرّهم مَنْ طال عمره وساء عمله. أمّا عن الحكمة في هذا التفاوت بين الخلق، فهذا مما لا علم لي به. فأنا قد أعملتُ الفكر في هذا التساؤل ذات زمن، فلم أخلصْ إلى جواب سديد، فتركتُه جانباً، وأوكلتُ الجواب لمسبّب الأسباب رب العالمين. وليس كلّ سؤال له جواب!

قلت: يقول الله تعالى: "يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ" (هود :61). فما معنى استعمركم فيها؟ 

قال: كلّ فعل بدأ بالألف والسين والتاء، فهو للطلب، فنقول استجاب تعني طلب الجواب، لذا فاستعمر هنا تعني طلب منكم التعمير، أي طلب منكم تعمير هذه الأرض. وقد أخطأ مترجمونا الأوائل، عفا الله عنهم، عندما ترجموا الكونيالية بالاستعمار، وكان الأجدر أن يترجموها: الاحتلال أو الهيمنة، وليس الاستعمار، لأنّهم بذلك أعطوا لفظة الاستعمار دلالة مخالفة لأصلها.

(2)

قلتُ لشيخي: ما ترى في ما يجري هذه الأيام على أرض فلسطين؟

قال: ما يجري هو ضمن سنن التاريخ.

قلت: كيف ذلك؟

قال: إنّ قضية فلسطين قضية عادلة، ويمكن اختصارها في كلمات مقتضبَة: قضية شعب على أرضه يجاهد ضد مغتصبي الأرض، كما تفعل كلّ الشعوب المضطهَدة عبر التاريخ.

قلتُ مقاطعاً: لكن جبروت إسرائيل في هذه الجولة فاق الحد.

كلما زاد جبروت العدو، سيزداد تمسّك صاحب الأرض بحقه، مهما كانت الخسائر

قال: أتفق معك، لكن هل هذا الجبروت يجعل الفلسطينيين يتوانون في الدفاع عن أرضهم؟ بالطبع لا؛ فكلما زاد جبروت العدو، سيزداد تمسّك صاحب الأرض بحقه، مهما كانت الخسائر.

قلت: لكن أغلب أنظمة الغرب واقفة مع الكيان الصهيوني بكلّ وقاحة، في حين أنّ الفلسطينيين وحدهم بلا نصير، حتى من العرب أنفسهم!

قال: الأنظمة الغربية ترى في الكيان الصهيوني امتداداً لها، وتظن أنّ إسرائيل هي الكيان المتحضّر في بحر التخلف العربي المحيط بها، ولو راجعت التاريخ القريب، مَنْ الذي ساند إسرائيل في احتلال أرض فلسطين عام 1948؟ أليست الأنظمة الغربية؟

قلت في خفوت: بلى.

قال: إذن، لِمَ الاستغراب من وقوفهم مع الكيان الصهيوني في هذه الجولة؟

في هذه الجولة لم تعد لفظة الحرب تكفي لوصفها، بل هي معركة كبرى تدور على أرض فلسطين، على أرض غزّة خصوصاً، غير أنّ امتدادها يكاد يمس الشرق والغرب، ولو بعد حين.

قلت: هناك من العرب، وغير العرب أيضاً، مَنْ يرى أنّ فصائل المقاومة الفلسطينية هي التي أشعلت المعركة التي لا يزال الشعب الفلسطيني يكتوي بنارها حتى اليوم؟ وكأنّهم يحمّلون هذه الفصائل مسؤولية ما يجري؟

ما قامت به فصائل المقاومة الفلسطينية هو ما يجب أن تقوم به أيّة مقاومة ضد أيّ احتلال في أي زمان ومكان

قال: هذا منطق معكوس، يخلط الأوراق، وكأنّ قضية فلسطين بدأت يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وليس منذ 75 عاماً خلت. فما قامت به فصائل المقاومة الفلسطينية هو ما يجب أن تقوم به أيّة مقاومة ضد أيّ احتلال في أيّ زمان ومكان، وإسرائيل لم تكن قبل هذا التاريخ توزّع زهوراً وكعكاً على الشعب الفلسطيني، سواء في غزّة أو الضفة، إنّها كانت تقتل وتعتقل وتبني مستوطنات،... إنها احتلال، بل خلاصة كلّ أصناف الاحتلال عبر التاريخ. 

قلت: إنّهم يقولون إنّ فصائل المقاومة الفلسطينية غامرت بهذه المواجهة بدون حسابات لفارق التسليح والقوة بين ما يمتلكونه وما تمتلكه إسرائيل.

قال: لو كلّ مقاومة وطنية حسبت هذه الحسابات لما أطلقت رصاصة واحدة! فهل حسبت المقاومة الجزائرية هذه الحسابات عندما ناهضت الاحتلال الفرنسي منذ عام 1954، حتى رحل عن أرض الجزائر عام 1962؟

كنْ إنساناً، بكلّ ما تعنيه الإنسانية من معنى، تكُن المتديّن الحقيقي؛ فلا قيمة لتديّن لا يحترم إنسانية الإنسان

وماذا عن فيتنام التي ناهضت الاحتلالين الفرنسي وبعده الياباني في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ثم ناهضت الاحتلال الأميركي حتى منتصف السبعينيات؟ والأمثلة كثيرة، فالمقاوم إنسان مؤمن بعدالة قضيته، ولو اجتمع عليه الشرق والغرب قاطبةً. وسيجد لنفسه طرقاً للمقاومة حتى التحرير، ومن ضمن هذه الطرق توفير سلاح مناسب للمواجهة.

قلت: شيخي، وماذا عن أرقام الشهداء المهولة من المدنيين الذين سقطوا جرّاء هذه المعركة؟

قال: هذه الأرقام تدلل على دموية إسرائيل وتخبّطها، ولا تدل على خوضها معركة حقيقية. فكلّ هذا الدمار الذي طاول مناحي الحياة في غزّة من بيوت ومستشفيات ومدارس...إلخ، يثبت للعالم أنّه احتلال لا يتورع عن انتهاك كلّ الحرمات لكي يبقى، فلا قانون دولي يردعه ولا ناموس أخلاقي يرده، وأنظمة الغرب التي تسانده إنّما تساند ساديتها وشهواتها القديمة للاحتلال والهيمنة، التي ربما استيقظت هذه الأيام. فدماء أطفال غزّة وبسالة فصائل المقاومة ستكتب تاريخ المنطقة من جديد، ولكل نبأٍ مستقر.

(3)

مما أدركتُه من أقوال شيخي الحكيم: كنْ إنساناً، بكلّ ما تعنيه الإنسانية من معنى، تكُن المتديّن الحقيقي؛ فلا قيمة لتديّن لا يحترم إنسانية الإنسان.

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري