ليس للمسنين من يحميهم إلا إن كانوا آلان دولون

ليس للمسنين من يحميهم إلا إن كانوا آلان دولون

14 يوليو 2023
+ الخط -

هو خبر مشاهير. "بيبول" كما يقال بالإنكليزية، للإشارة إلى من يحبّ الناس متابعة أخبارهم نظراً لشهرتهم في مجال ما، قد لا يكون إبداعياً بالضرورة، كما في حال أخبار العائلات الملكية مثلاً. لكن هذا الخبر عن احتمال تعرّض النجم الفرنسي التسعيني آلان دولون لإساءة المعاملة من قبل مساعدته المنزلية، كان من النوع الذي يستحق التوّقف عنده، لدلالاته الاجتماعية العميقة أولاً، ولأنه يسلّط الضوء على قضية شديدة الأهمية، ولا يجري تناولها كما تستحق، أقصد قضية معاملة المسنين في مجتمعاتنا.

وبصيغة السؤال، كون القضية لا تزال في طور التحقيق، كان عنوان الخبر الذي أوردته وكالة الصحافة الفرنسية: "هل يتعرّض آلان دولون لسوء المعاملة؟".

وبغضّ النظر عن اللهجة الصحافية المتعاطفة إلى حدّ كبير مع فتى الشاشة الفرنسية السابق، وفي كلّ وسائل الإعلام الفرنسية، بالرغم من أنّ القضية لا تزال قيد التحقيق، ووصف السيدة المتهمة بتعابير تنمّ عن حكم مسبق عليها بالإدانة، لا بل أحياناً بتعابير عنصرية، إلا أنّ ما ظهر للعلن من شهادات للمقرّبين قد يكون فعلاً أدلة على ما وصفته الشرطة في تقريرها، واستندّ إليه محامو عائلة النجم في دعواهم من "عنف متعمّد واحتجاز شخص ضعيف واستغلال الضعف وممارسة المضايقات المعنوية" على النجم المعتزل في شيخوخته. 

ما يهمنا هنا من هذا الخبر ليس كونه عن آلان دولون، معبود الجماهير في زمن سابق، ولا عن الممثل الموهوب ذي الأدوار التي لا تُنسى، بل عن العجوز آلان دولون، المتروك تحت رحمة سيدة، يبدو أنها طمعت ببدل ما لخدماتها لهذا الرجل طوال أربع سنوات، أقامت فيها معه في قصره بوسط فرنسا، وكانت تدير شؤونه على ما يبدو بتحكّم متزايد إلى درجة أزعجت أصدقاء النجم ومحبيه وأولاده الثلاثة، وأزعجته هو شخصياً قبل الجميع لدرجة توقيع الشكوى بنفسه. 

يتحدّث أبناء الممثل الذي شارف على التسعين من عمره، والذي بدأ بتوزيع ثروته في حياته ليحمي أولاده من نزاع الورثة، عن قيام المُساعدة أعلاه، بالردّ على إيميلاته نيابة عنه، ورفض استقبال الضيوف دون العودة إليه، وإخفاء تعرّضه لجلطة في القلب عن أبنائه ووقوعه ونقله إلى المستشفى، كما يتهمونها بردّ نصوص سيناريوهات أرسلت إليه، والإجابة عنه برسائل نصية على تلفونه دون معرفته، حتى عندما يكون المرسل أحد أولاده. إضافة لمحاولتها الزواج منه، الأمر الذي رفضه مراراً حسب أولاده، ما جعلها ربّما تقوم بتضييق الخناق عليه لابتزازه، كما يظنّ محامي العائلة.

هناك الكثير من الظلال في هذه القضية حول دور المساعدة ومدى صحة ما قاله أبناء النجم في شكواهم، وحول التحامل حدّ الإدانة تقريباً على تلك السيدة في الصحف الفرنسية من باب التعاطف مع النجم العجوز. كلّ هذا، ربما، سيتوضح بمزيد من التحقيق، لكن ما يدعو إلى الحزن هو السؤال التالي: إن كانت هذه حال النجم الفرنسي بالرغم من ثروته وشهرته، ووجود ثلاثة أولاد له وأحفاد، فكيف هي حال المسنين العاديين؟ ماذا عن أولئك المحتاجين للآخرين في قضاء حوائجهم اليومية، إن لم يكونوا من المشاهير؟ من يهبّ لنجدتهم؟ والأهم، من يحافظ على كرامتهم الإنسانية في كبرهم وعجزهم؟ 

هناك تغييب شبه كامل للمسنين في حياتنا العصرية، كأنّما الإنسان حين يكبر في العمر حدّ العجز عن القيام بمهامه الضرورية، يبدأ بالامّحاء من المشهد

هناك تغييب شبه كامل للمسنين في حياتنا العصرية، كأنّما الإنسان حين يكبر في العمر حدّ العجز عن القيام بمهامه الضرورية، يبدأ بالامّحاء من المشهد. تبهت صورته وهو جالس في مكانه لا يتغيّر، على كنبة مثلاً، أو أمام التلفزيون. 

يختفي المسنون والمسنّات من مشهد الحياة تدريجياً، كأنّ الكبر هو عدّ عكسي بصري، يشبه امّحاءهم التدريجي، الاختفاء بالتذرّر في مسلسل الخيال العلمي الأميركي "ستار ترايك". 

هم أيضاً لا يشكلون فئة مغرية للاستثمار للدولة أولاً، التي باتت عكس واجباتها، تركز على تقديم الخدمات لمواطنيها من الشباب، الفئة الأكثر إنتاجاً واستهلاكاً، دون المسنين الذين يُعتبرون عبئاً على دول القارة التي تُوصف للمفارقة بالعجوز. فالعَجَزة هم تلك الفئة التي ترتفع نسبتها في الهرم السكاني، مكلفة الدولة طبابة ورعاية، دون أن تكون من الفئة التي ترفع أرقام موارد الميزانية، ولذا لا أحد يهتم لأمرهم. 

هذا بالنسبة للدولة، أما بالنسبة للأفراد، خاصة في بلادنا، فإنّ رعاية المسنين هي الأقل حصولاً على الاهتمام إلا في دوائر العائلة، وبالتحديد حين يصل أحد أفرادها إلى عمر الشيخوخة، فيقف الباقون مرتبكين أمام أمر واقع لا يعرفون عنه شيئاً. 

وكما ننسى الموت، مع أنه الأكثر وجوداً في حياتنا، يبدو أننا ننسى أننا سنكون في هذا الموقف يوماً ما. لا تعمّق في درس الحالات وكيفية الاستجابة لها ورعاية المسنين بيننا.

وربما لا، بل يجب الاعتراف، إنّ هذه الرعاية ليست أمراً سهلاً. هناك حالات لا يمكن التعامل معها إلا تحت إشراف طبيب وبمعاونة خبير. هناك حالات هلوسة بسبب نقص وصول الأكسجين إلى الرأس، هناك عناد وحساسية مفرطة وعدم إدراك، لا بل هناك أيضاً عنف. هناك تحوّل إلى طفل بسنّ الرضاعة مع ذاكرة شخص بالغ. هناك ضياع وقلق وخوف من تدهور صورتك عند الآخرين، هناك تكرار للأسئلة والأخبار والقصص، هناك خسارة للوزن والنظر والسمع والحركة وفقدان للشهية. هناك مزاج يتغيّر بدون أدنى قدرة على السيطرة، وهناك محاولات مستميتة، تُمنى بالفشل غالباً، للتحكّم بالنفس من أجل الاحتفاظ بالكرامة، فشل يليه حزن وغضب ويأس. 

 رعاية المسنين هي الأقل حصولاً على الاهتمام إلا في دوائر العائلة، وبالتحديد حين يصل أحد أفرادها إلى عمر الشيخوخة، فيقف الباقون مرتبكين أمام أمر واقع لا يعرفون عنه شيئاً

قضية العناية بالمسنين في مجتمعاتنا المعاصرة، وانشغال الأفراد بحيوات مستقلة عن الأهل، وفي بعض الأحيان بعيداً عنهم في مهجر ما، ليست قضية هينة. 

قديماً، أوجدت مجتمعاتنا الشرقية حلولاً "عملية" نصنفها اليوم ظالمة. كان الأهل العَجَزة يُبقون إحدى البنات بقربهم دون زواج لرعايتهم في كبرهم. كان سلوكاً أنانياً، لكنه كان عملياً بنظرهم واضطرارياً. كانت الفتاة تُعَوّض بإرث ما أحياناً، أو بتبنّي أحد أولاد إخوتها بشكل غير رسمي ليرعاها بدوره في كبرها. 

وفي مجتمعات أخرى، حلّت الكنّة محل الابنة في هذه الوظيفة الشاقة. أما من ليس لديهم من يرعاهم، وفي حال توفر دور للرعاية فكانوا يرسلون إليها، وهو حلّ إن كان يريح العائلة فهو لا يحول أبداً دون إحساس المسن بالخذلان والترك كما أثبتت الكثير من الدراسات، ما يؤدي إلى تسريع نهايته.

وأخيراً "اكتشفت" طبّ المسنين. وبالرغم من أنّ الشيخوخة وخسران الاستقلالية أمر لا مفرّ منه غالباً، إلا أنّ هذا الاختصاص يعلمك كيف تتعامل مع هذه الحالات إن كنت تقوم برعاية مسن وحدك، وهو ما لا يُستحب عادة، أو بمعاونة محترف، وهو ما لا يستطيعه إلا القادرون. 

ما الذي نستطيع فعله لتأمين نهاية كريمة لحياتنا؟ لا أعلم فعلاً. صحيح أنّ الأولاد هم الأقدر على تأمين ذلك بحبّهم وعنايتهم وصبرهم، لكن هل يكفي ذلك؟ وماذا إن لم يكونوا أبناء بارين؟ ماذا عن أولئك الذين من دون أولاد؟ 

حين أفكر في نهايتي الشخصية، أتذكر ما يُقال عادة في بلادنا للتهنئة بعيد ميلاد أحدهم، حيث يُقال له "يعطيك من العمر قد ما العمر بيلبق لك"، أي ليهبك الله من العمر بقدر ما يليق بك الكبر.

وفي غياب اهتمام الدولة بالمسنين، وجهل المحبين أو عدم قدرتهم، لا يمكن إلا الاتكال على السماء في تقصير أعمار من يهدّدهم التقدّم بالسن بالبهدلة، وأنا منهم.

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.