في اللقاء مع القابلة

في اللقاء مع القابلة

12 مارس 2023
+ الخط -

تمسك القابلة، التي تعمل في مشفى الحكومة، بقدمَي من الأعلى فيتدلى رأسي أسفلاً. يُولد المرء، في هذه البقعة الجغرافية الموصومة بالفخر، منخفض الهامة حتى وإن غنّى عكس ذلك. يكبر كسنبلةٍ فكلما رفع رأسه للشمس تضربه الرياح فينحني ليعد الحصى حتى إذا ما كبُر، أصبح والشارع تؤمين؛ توأما يغطيه الزفت وآخر يغمره الطين.

 "أهلاً وسهلاً بك في هذا العالم الفاني" تقول القابلة في مواجهة مؤخرتي الصغيرة: "إنه ليس بالعالم المثالي، لكن لحسن حظك وُلدت لأمةٍ مثالية. أمة خالدة لكنها تعيسة الحظ بعض الشيء، إذ إنها مُصابة بمؤامرة خارجية. لا تقلق فلدينا قائد همام، سيد مقدام، فارس لا يُشق له غبار يتمتع بشبق دائم للمغامرة وعرشه حصين على الدوام فلن يهتز مهما اشتدت المؤامرة. طوبى لك يا بني فأنت وُلدت لأمة لا تعرف سوى الصواب في عالم مليء بالخطايا. عالم يضج بالشهوات والرذيلة وأنت وحدك رمزٌ للفضيلة، فأنت ابن هذه الأمة المجيدة. لقد مُنحت اسماً لا مثيل له، هو لك وحدك. وعليك أن تدافع عن هذا الاسم ما حييت. عليك أن تحميه ضد من يريد سلبه منك. كثرٌ هم من يسعون للنيل من اسمك، فكن مستعداً على الدوام. وتذكر أنه لم يكن سهلاً على والديك إيجاد هذا الاسم لك. اسمك هذا أقدس من وجودك. ليس لك أن تتنازل عنه لأحد فتلك جريمة لا تغتفر، إياك أن تقترفها فتصبح ابناً للرذيلة.

لم يكن ألم الصفعة ما أبكاني ولا علامات أصابعها على مؤخرتي، إنما بكيت جوعاً

ظلت القابلة تملي الشعارات على مؤخرتي الصغيرة، وأنا ملتزم الصمت، فكلما رددت شعاراً جديداً، كان قفلاً آخر على لساني، حتى بات فمي كمعرض أقفال.

في نهاية المطاف صفعتني، فبكيت. لم يكن ألم الصفعة ما أبكاني ولا علامات أصابعها على مؤخرتي، إنما بكيت جوعاً. لقد كان علي أن أحفظ الأسماء كلها قبل أن يُسمح لي بأن أرتشف من ثدي أمي ولو رضعة واحدة. لم أتمكن بمعدة خاوية من حفظ اسمي وأسماء أجدادي وقبيلتي، وعشيرتي ولأي فخذ أنتسب ومن أي عائلة انحدر، وبأي دين أدين، ولأي طائفة أنتمي وفي أي المدن وُلدت ومن أي الأنهار شربت، وأسماء أبناء حارتنا الشجعان الذين واجهوا أبناء الحارات المجاورة و.. كنت أنتمي لكل هذه الأسماء بنسب متفاوتة تحت مظلة هذا الوطن الكبير. وحده الوطن لم يكن له اسم. وكان علي أن أتخذ قراراً حاسماً منذ ولادتي لأي فريقٍ سأنحاز حينما تندلع حرب البسوس مرة أخرى، هل أقاتل هذه المرة مع أعمامي أم مع أخوالي!

لكل حرب ولاءاتها، تجيبُ القابلة التي تعمل في مشفى الحكومة، فحينما تندلع الحرب باسم القبيلة ستكون مع أعمامك ضد أخوالك.

وحينما تكون الحرب باسم العشيرة فسيكون عليك أن تُجانب أخوتك لا أعمامك. وحينما تكون الحرب باسم المدينة فستكون حربك حيثُ وُلدت. وحينما تكون الحرب باسم الطائفة ستكون حيث يحارب الزعيم. وإن انقلب فجأة إلى المعسكر الآخر، عليك أن تنقلب معه على الفور. ولا تنصت لمن يقولون بأن الزعيم يقاتل إلى جانب من يدفع أكثر، فهذا افتراء. الزعيم لا يحارب إلا من أجل الوطن. ويجب عليك أن تعيد كتابة ماضيك مع نهاية كل معركة وأن تعيد صياغة الذاكرة كل مرة، لتورثها للأحفاد حتى لا يتكاسلوا عن الحروب، فما زال أمامنا ألف بسوس وبسوس بعد. ولا تلجأ إلى التاريخ أبداً فهو أعمى، لا يلون صور قادتنا العظام ولا ينفخ الروح في عظام أجدادنا. ابق بجانب الذاكرة فهي وحدها من يضفي على الماضي ألواناً زاهية.

ما زلت جائعاً لا أستطيع الكلام، أما القابلة، التي تعمل في مشفى الحكومة، فما زالت تردد على مسامعي أسماء الأجداد وحروبهم المقدسة وعن واجبي في السير على خطاهم، حتى أيقنت منذ ولادتي أن الحرب في هذه البلاد قدر لا مفر منه. لقد اخترت منذ الآن معركتي. لن أحارب إلى جانب الذاكرة، إنما على من أشبعوا بطونهم وتركوا معدتي فارغة، وعلى هذه القابلة التي تعمل في مشفى الحكومة.