فهد بلان وعلي الديك وأم كلثوم

فهد بلان وعلي الديك وأم كلثوم

10 سبتمبر 2023
+ الخط -

بقي حديثنا السابق، عن الفن والغناء، يدور في ذهن صديقي أبو سعيد، بدليل أنه، بمجرد ما فتح الخط، بادرني بالقول إنه فوجئ بأنني متعاطف مع المطرب علي الديك، معجب بأغانيه.

قلت: علي الديك ليس بين المطربين المفضلين لدي، بمعنى أنني لا أسعى لسماعه حينما أريد أن أستمع إلى الغناء، ولكنني أعترف به مطرباً صاحبَ صوت قوي، وفيه جاذبية، وحينما تمر بي إحدى أغنياته أنسجم معها وأطرب لها. وأين الغرابة في ذلك؟

- لا أدري أين الغرابة، ولكنني كنت أتخيل أنك لا تحبه، لأنه من صناعة نظام الأسد.. ولذلك أريد أن توضح لي وجهة نظرك بشيء من التفصيل.

- طيب. يا سيدي، الزعم بأنه من "صناعة نظام الأسد" يفتقر إلى الفطنة، وأنا أؤكد لك أن صناعة مطرب بشعبية واسعة، من فراغ، غير ممكنة، سواء أكان الصانع نظام الأسد أو غيره.. ولعلمك؛ علي الديك، حينما ظهر على الساحة الغنائية، اكتسح الموقف، وكل واحدة من أغانيه كانت (تكسّر الدنيا)، وتحتل أجهزة التسجيل الخاصة في المحلات التجارية، والأسواق، والبيوت، والآن، يمكنك أن تدخل إلى يوتيوب، وتقرأ عدد مشاهدي كل واحدة من أغانيه، وستجدها قد تجاوزت عشرة ملايين مشاهدة، وهذا الرقم لا يحققه إلا المشاهير الكبار..

- ولكن علي الديك، بعد الثورة، أعلن موقفه مع النظام.

 - هذا موضوع آخر، ومختلف.. المشكلة الحقيقية، يا صديقي، تكمن في هذا الخلط بين الفن والسياسة عند بعض المحللين الذين لا يفهمون لا بالسياسة ولا بالفن. تصور، صباح فخري، قلعتنا الثانية، لم يقل كلمة واحدة في مديح نظام الأسد، ومع ذلك ثمة مشككون بموقفه. ما رأيك أنت بعبد الحليم حافظ؟

- وهل هذا سؤال؟ طبعاً رائع.

- نعم، هناك أناس لا يطيقون جمال عبد الناصر، ولكنهم يحبون عبد الحليم، مع أن عبد الحليم مدح عبد الناصر بأجمل الأغنيات من شعر عبد الرحمن الأبنودي وألحان كمال الطويل.. وهناك أناس لهم موقف من الوحدة بين مصر وسورية، ومع ذلك إذا سمعوا أغنية "وحدة ما يغلبها غلاب" التي لحنها عبد العظيم عبد الحق وغناها محمد قنديل، يطربون لها، ويرددون كلماتها، ولا سيما قوله:

أنا واقف فوق الأهرام

وقدامي بساتين الشام

- هذه المناقشة، بصراحة؟ جيدة، ولكنها جديدة علي.

- جديدة؛ لأننا لم نعتد على مناقشة قضايانا، في المجمل.. وأنا أقول لك، من باب الاسترسال، إن جمهور المثقفين السوريين كانوا يتخذون موقفاً سلبياً من أي مطرب يقدم لوناً غنائياً شعبياً جديداً، فحينما ظهر المطرب فهد بلان، وغنى مع المطربة سحر "آه يا قليبي"، من كلمات وألحان شاكر بريخان، ربما أعجبهم ذلك، ولكنهم لم يشجعوه، ولا حتى بعد أن قدم له عبد الفتاح سكر أجمل الأغنيات، واختصروا النظر إليه من زاوية أنه يختم بعض الجمل الغنائية بـ هوهو، وهيه هيه.. ولكن صوت فهد بلان، في الحقيقة، بالغ العذوبة، وإمكانياته على أداء الألحان الصعبة وتلوينها مذهلة، وقد استهوى ملحنين سوريين آخرين مثل سهيل عرفة، وحسام تحسين بك، اللذين انضما إلى محبيه، وقدما له أعمالاً رائعة، وعلى الرغم من هذا كله، بقيت نظرة المثقفين إليه مشوبة بالاستهجان، إلى أن سافر إلى مصر، وهناك لمع بطريقة غريبة، إذ سرعان ما لحن له فريد الأطرش، وسيد مكاوي، ومحمود الشريف، وصار واحداً من نجوم السينما في مصر وفي لبنان، وتزوج مريم فخر الدين، وكذلك الدلوعة صباح، وقد وصف الموسيقار الكبير سيد مكاوي إمكانياته بقوله: أنت بتعطي فهد بلان لحن زي شجرة مَفيهاش غير الأغصان، وهو بيكسي الشجرة بالأوراق والثمار، بأداؤو الجميل.

- هل صحيح أن فهد بلان كان معاون باص؟

- أين المشكلة في ذلك؟ هل يجدر بالمطرب أن يكون ابن آغوات وبيكوات وباشوات؟ يا سيدي، أم كلثوم (فاطمة بنت إبراهيم البلتاجي) جاءت من أسرة فلاحية صعيدية، والدُها كان منشداً، يغني في الموالد، وحينما سمع صوتها أدرك أهميته، وصار يُلبسها ثياب صبي، ويضع على رأسها عقالاً، ويأخذها معه إلى الموالد، فزاد حضورها في رزقه.. ولكن مَن كان يدري، أو يتوقع، أن صناعة مجد أم كلثوم سوف تتزامن مع صناعة أمجاد عدد كبير من الشعراء والملحنين والعازفين؟ أم كلثوم، المرأة القاهرية، المتحضرة، التي، كانت في يوم من الأيام، فلاحة بعقال صبي، جعلت المبدعين الكبار، من الشعراء والملحنين، يتسابقون في سبيل الوصول إليها، وأما الذين وصلوا إليها بالفعل، فبفضلها كانوا مضطرين لتقديم أجمل ما عندهم، على الدوام، إنها، بجملة واحدة، ركيزة أساسية من ركائز عصر النهضة. وإذا شئت يمكننا أن ننهي حديثنا لهذا اليوم بحكاية تعطيك فكرة جيدة عن كوكب الشرق (الفلاحة، مغنية الموالد، سابقاً) أم كلثوم.

- يا ريت.

- في سنة 1964 لحن محمد عبد الوهاب لأم كلثوم "أنت عمري"، وهذا أول لقاء بينهما، وقد أطلقوا عليه اسم "لقاء السحاب". وجدير بالذكر أن عبد الوهاب يحمل لقب موسيقار الأجيال، والهرم الرابع، وهو يستحق هذين اللقبين، وأكثر. وبعد النجاح المدوي لـ أنت عمري، بسنة واحدة، لحن رياض السنباطي لأم كلثوم قصيدة إبراهيم ناجي "الأطلال". (وبالمناسبة، السنباطي نفسه كان يغني مع والده في الموالد، ووقتها كان يلقب بـ"بلبل المنصورة").. وما حصل؛ أن مجموعة من الملحنين الكبار، والمطربين، والشعراء، ذهبوا إلى فيلا أحدهم، وجلسوا يترقبون سماع أغنية "الأطلال" من الإذاعة، وكان على هذا القدر من الاهتمام لأن تسريبات وصلتهم، تفيد بأن السنباطي وضع ثقله الفني كله في تلحينها.. وعندما بدأت الفرقة بعزف المقدمة، بدأ الحاضرون يصغون بجوارحهم كلها، وحينما انتهت قال عبد الوهاب جملة قوية جداً، (مع أن فيها إقلالاً من شأن المرأة):

- رياض السنباطي، باللحن ده، لَبَّسْنا طُرَحْ!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...