فلسطين وتقهقر عقيدة الصدمة

فلسطين وتقهقر عقيدة الصدمة

09 نوفمبر 2023
+ الخط -

"هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا". (رضوى عاشور)

لم يكن ما حدث في شهر تشرين الأول عام 2023 محض صدفة، أو حالة غضب آني، بل كان نتاج تراكم هائل من الكبت، والقهر، والاحتقان، والحرمان، والمظلومية. فالحصار الحديدي لقطاع غزة على مرّ السنين، والحرمان من كل مقومات الحياة الكريمة، ولد حالة من الانفجار في وجه هذا الاحتلال، هذا الانفجار الذي يتضح معناه في تحويل الشعوب لنفسها من العيش في حالة "الصدمة المختارة" إلى العيش في حالة "المجد المختار". آملة بهذا التحول من الحالة إلى الأخرى في إحداث نقلة نوعية على صعيد حالتها النضالية، وتحقيق مكاسب سياسية ملموسة على الأرض، وهذا حق مشروع ومكفول، فلا شك في أن الشعوب الخاضعة للاحتلال ستحاول بشتى الطرق دحر الاحتلال عنها، وهذا يتلاقى مع طبيعة النفس البشرية التي ترفض الخنوع والخضوع، وهي طبيعة خلاقة باحثة عن الحرية والانعتاق من كل القيود والأغلال.

ولعل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، عبّر أفضل تعبير عن الظروف التي أدت إلى إحداث هذا الانفجار من خلال قوله المقتضب: "لقد خضع الشعب الفلسطيني على مدى سنين طويلة للاحتلال الخانق، فالفلسطينيون رأوا أرضهم تلتهمها المستوطنات، ويعمّها العنف، واقتصادهم يخنق، وشعبهم يشرد، ومنازلهم تهدم، وآمالهم في حل سياسي لمعاناتهم تتلاشى".

تحاول إسرائيل منذ أن بدأت عدوانها على غزة بإحداث إبادة جماعية حقيقية، بدعم وتأييد من الدول الاستعمارية التي تعتبر بمثابة رأس الحربة في محاربة الدول الباحثة عن حريتها

ولعل المشاريع التصفوية الإسرائيلية كانت مستمرة على الدوام، هذه المشاريع التي تتعدد وتشمل مختلف نواحي الصراع، تبدأ هذه المشاريع بضرب كل ما هو فلسطيني واجتثاثه مثل ما حدث في النكبة عام 1948 من خلال الترانسفير الوحشي، مروراً بمشاريع تكثيف الاستيطان، وتمزيق فلسطين إلى "كنتونات"، وإقامة جدار الفصل العنصري، ونشر الحواجز، وتدنيس المقدسات، وتعميق يهودية الدولة على حساب ديمقراطيتها، وشرعنة التمييز من خلال القوانين العنصرية، وتنامي الفكر المتطرف، وضخ مشاريع التشويه الفكري تجاه الفلسطينيين، وكيّ الوعي وتسطيحه.

وتحاول إسرائيل منذ أن بدأت عدوانها على غزة إحداث إبادة جماعية حقيقية، بدعم وتأييد من الدول الاستعمارية التي تعتبر بمثابة رأس الحربة في محاربة الدول الباحثة عن حريتها، وشيطنتها، مع التركيز على محاولة حرمانهم حقهم في النضال بكل أشكاله. وتنتهج إسرائيل أيضاً نهج "عقيدة الصدمة" بحق الفلسطينيين في غزة، ولعل أساس عقيدة الصدمة يقوم على ضرب البلدان بشكل شديد السرعة والفتك، وصناعة الأزمات الهائلة، وخلق حالة طوارئ، مع إحداث دمار واسع في شتى المجالات، وجعل الناس يعودون إلى حياة الفطرة الأولى، مُفرغين من كل شيء، لا هدف لهم في الحياة سوى البقاء فقط على قيد الحياة، ووضعهم في صراع بقاء بشكل دائم، مع توجيه الصدمات المتتالية لهم لضمان إفراغهم تماماً من محتواهم، وضرب قضاياهم، ووضعهم في حالة شديدة القسوة تعمل على إخضاعهم وتفتيت معالم عقولهم وأفكارهم، من خلال القوة التدميرية الهائلة شديدة البطش والترويع والتقتيل.

ففي غزة بات هنالك كارثة صحية هائلة، وكارثة غذائية، وبيئية، وحياتية، ومعيشية. فالحالة الحاصلة أشبه بالخيال، وهذا مع استمرار قصف المدارس، والمستشفيات، والبيوت على رؤوس ساكنيها، وارتكاب المذابح والمجازر دون توقف، مع الإمعان في خلق الكارثة الأكبر، وهي تكمن في أن يعتاد العالم المشهد، ويألف الصورة، ويتأقلم مع الإبادة.

فما يحدث تطبيع للوعي، تطبيع للوجدان، تطبيع للعين، وهذا أشنع ما في الأمر، وكل هذا يتلاقى مع فلسفة عقيدة الصدمة وآلية عملها. هذا النهج الذي سيفشل، وهذه العقيدة التي تقوم على الصدمة لن يكتب لها النجاح؛ لأن قوة إرادة الفلسطينيين ستتفوق على إرادة قوة الاحتلال، وستُفشل مساعيه الإحلالية وستتقهقر هذه العقيدة بفعل صمود الفلسطينيين وتضحياتهم الجسيمة.

فالحرب لم تكن يوماً غاية لدى الفلسطينيين، بل وسيلة لصنع السلام، فثمن الحرية كبير، وهو أمر بحاجة الى جهد عظيم وفلسفة تحررية لا تُهزم، واستراتيجيات ثورية محبوكة بقوة وبحرفية عالية، وتفوق أخلاقي ثابت، واستراتيجيات عقول وأدمغة، وهذا يقود إلى جعل الحلم الفلسطيني بالتحرر وإقامة الدولة المستقلة واقعاً وممكناً وليس ببعيد. فالثورة هي شكل الحرب الوحيد الذي لا يأتي النصر فيه إلا عبر سلسلة من الهزائم؛ فالثورة الناجحة لا تحدث إلا بعد سلسلة من الثورات الفاشلة، حيث تكون كل واحدة منها بمثابة خطوة لتمهيد الطريق نحو إنجاح الثورة الأخيرة.

محمود العزة
محمود العزة
باحث وكاتب، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية، وماجستير في الدراسات الإسرائيلية.