غنّوا للعتمة رجاءً.. غنّوا للحرية

غنّوا للعتمة رجاءً.. غنّوا للحرية

18 يناير 2024
+ الخط -

منذ عامين أو يزيد، افتُتحت المعتقلات الجديدة "المتطوّرة" كجزء من سياق ادّعائيّ عام، لإيهام جمع من المغفّلين (طواعيّةً) بأنّ شيئًا إيجابيًّا ما يحدث. لكن خلف الكواليس تدور ماكينة الرعب على وجهٍ أعنف مما كانت عليه من قبل، لتهرس حيوات المعتقلين/ات وتشوّه أرواحهم.

واحد من تروس هذه الماكينة وجود كشافات ضوءٍ باهرة في كلّ زنزانة، وبلا انقطاع طوال هذه السنين، وكاميرا مراقبة كذلك.

عن هذا الأذى وما وراءه، كتبتُ هذا النصّ داخل المعتقل، وأنشره الآن للمرّة الأولى لفتًا للانتباه إلى هذه الجريمة.

.....

سألني شيئًا فأجبته دافنًا وجهي تحت الغطاء: "أنا ما صدقت هربت من النور، مش هاطلع له تاني".

كان ردّي صادمًا لكلينا، إذ متى بدأ النور يمثِّل هذا البعبع، حتى صرتُ ألوذ منه بالعتمة؟

****

واحد من مرادات السلطة، أيّة سلطة كانت، هي خلخلة اعتقادات مخالفيها وخصومها، وإرباك تصوّراتهم عن ذواتهم، ذلك أنّ أيّ حراكٍ مُحتمل، منطَلَقُه قناعاتيّ بالضرورة، يتشكّل داخليّا في النفوسِ قبل أن يُترجَم إلى نشاطٍ مادي.

وهي (أي السلطة) تسعى لتدارك ذلك، لا إلى قمع النشاط عند حدوثهِ، بقمعِ الأجساد عبر أدواتها الماديّة الوفيرة كالسلاح والسجون وغيرها فحسب، إنّما وقائيّاً تسعى لهدم الإرادة الدافعة وتبوير التربة النفسيّة الحاضنة لأيّة فكرة عند هذا الخصم؛ وأداً لأي احتمال.

متى بدأ النور يمثِّل هذا البعبع، حتى صرتُ ألوذ منه بالعتمة؟

تلك ممارسة كولونيالية قديمة، على اختلاف الأدوات باختلاف العصور، تغرضُ لإحكام السيطرة على مجتمع معاد/مناهض وإعادة توجيه طاقته (بعد تشويه القيم والمعاني في ذهنه) لما يخدم خطة هذا المحتل، ويجنّبه أخطار المقاومة، أو التمرّد التي قد تنشأ فيه.

وهي لا تعيد، سعيًا لذلك، تقسيم الحيّز المكاني وتوزيعهم فيه لتراقب، ومن ثمّ تتوقّع وتتحكّم في أجساد المحشورين قسرًا في هذا الحيّز (على نموذج جيرمي بنثام) فقط.

يجب ألا ننسى أنّ تألِيَة هؤلاء البشر المستهدفين ودفعهم للتحرّك ذاتيّا وفقًا للخطة، بترسيخ شعور دائم لديهم أنّهم مراقَبون ومكشوفون تمامًا، ولا مناص إذًا من السير في المسارات المرسومة لهم سلفًا من هذه السلطة.

ولا تكتفي السلطة هذه كذلك بأسر الأجساد والسيطرة عليها أو تحطيمها (اعتداءً أو إضعافًا أو تعذيبًا وبترًا…) أو حتى التخلّص منها بالقتل فقط. إنّما، وهي تتوسّع في استهداف جرمها للآلاف، كما وهي مضطرّة لتجنّب الإيذاء المادي/الجسماني ما استطاعت، ولو تحايلاً مرحليًّا لاعتباراتٍ، ربّما أهمّها العجز عن إخفاء أثره المباشر أو ضمان تبعاته، خاصة وهي ترتدي قناع حامي الحقوق والحريّات في خطابها الدولي.

لذلك (بدلًا أو مع) تذهب إلى صورة أخرى من الإيذاء، أبقى أثرًا ربّما، وأيسر إنكارًا، وأنسب لحالة الادعاء العام الذي تتبنّاه كقاعدة في الملفّات كافة. وهي ترسّخ هذا الإيذاء كجزء من المنظومة وتقنّنه، ومن ثم تُعاقب رافضيه أو محاولي التمرّد عليه بأيّة صورة. 

وفي هذا كلّه، إنّما تعيد تكوين المعنى في الأذهان بعد تشويه الإحالاتِ الراسخة للكلمات، ثم إعادة تحميلها بمعنى آخر مناقض غالبًا لما ظلّ باقيًا في الذهن واللغة، ويتمّ استدعاؤه عند ذكر هذه اللفظة أو تلك، وهو ما يغيّر بالتبعيّة الشعور المصاحب لهذا المعنى.

***

لسنا أمام مجرّد جريمة تعذيب (رغم كونها كذلك يقينًا)، ولا مجرّد إرباكة لشخوص المستهدفين لمرحلة موقوتة، إنّما هذه المرّة ضربة لما هو أعمق وأعقد، هدمٌ لمفاهيم قديمة قدم البشريّة:

- آتون عند المصريين القدماء، رحلة إبراهيم تفتيشًا عن ربّه، تمرّد بروميثيوس تعاطفًا مع الإنسان، إلكترا، وصولًا إلى تسلا وأديسون وأصحابهما.

- وحتى ما اجتمع العائدون من الموت على رؤيته في آخر النفق الذي زاروه: الضوء.

واحدةٌ من مرادات السلطة، أيّة سلطة كانت، هي خلخلة اعتقادات مخالفيها وخصومها، وإرباك تصوّراتهم عن ذواتهم

ذلك المعنى البدهي العابر للثقافات والألسنة بدلالات ثابتة تزدحم بها أدبيّات كلّ الساعين للخير، العدل، والحريّة.

كلّ هذا وأكثر يتداعى وتنهار بناءاته تحت الضربات المتتالية لأجهزتنا العصبية (نحن المعتقلون)، بيد أنّ "الضوء" المسلّط علينا بطول هذه السنين بلا انقطاع، يحرمنا النوم كما يحرمنا أيّ سكون، ولو بشكل مؤقت. ويبقينا عراةً (للتعرية القسرية والكشف الغصب بكاميرا المراقبة المثبّته داخل الزنازين حديث آخر). 

الجهد الفاشل بطول اليوم، والليلة لتخليق عتمة تهدأ النفس ولو قليلًا.

التفتيش عن نقطة عمياء أو خلقها لتنفث فيها شعورك وتترك لوجهك براح التعبير (أو حتى تبكي دون مراقبة).

الكوابيس التي تخلّت (مواكبة للظرف) عن أدواتها الإيذائية المعتادة كالضرب والرصاص والغاز والمدرّعات… إلخ، واكتفائها بالضوء كأداة إيذاءٍ وحيدة.

خريطة الأعصاب "النيغاتيڤ" التي تظهر محترقة مع كلّ إغماضةٍ، ولو صحوًا.

وانتفاضة الجسد كالمصعوق عند كلّ محاولة استرخاء أو نوم. 

…..

أهكذا تموت الفراشات في قبورها الضوئيّة؟ أم أنّ انتقاءها ميتتها يشكّل فارقًا ما، لا نتبيّنه نحن السائرون قسرًا على طريق الاحتراق؟ 

….

غنّوا للعتمة رجاءً 

غنّوا للحريّة.