عسكرة العقل السوداني

عسكرة العقل السوداني

15 ديسمبر 2023
+ الخط -

إنّ مرور ما يزيد عن الخمسين عاماً من فترات حكم العسكريين في السودان خلّفت انهيارات في مختلف قطاعات الدولة وأركانها، حيث وعلى امتداد هذه السنوات، غرقت الحكومات العسكرية في صراعات وحروب داخلية ما زال السودانيون يدفعون ثمنها حتى اللحظة، خاصة أنها عملت على عسكرة المجتمع أيضا.

كما تتجاوز مخلّفات العسكريين في السلطة الدمار السياسي والاقتصادي إلى صناعة مجتمع يؤمن في أعرافه بسلطة العسكر رغم تجاربهم الشمولية الباطشة، ولا يميل للتجارب الديمقراطية. وباتت العقلية السائدة في قطاعات كبيرة من التكوين الاجتماعي السوداني لا تؤمن إلا بالحكومات العسكرية، تُغني وتصفّق لقادتها العسكريين، وتغضّ الطرف عن مساوئها، وعن انهيار قطاعات الدولة فيها، الأمر الذي يمثل خطراً أمام ثورات التغيير، بجعلها دوامة تُرجع إلى جُحر العسكر، لتُلدغ منه مرّة أخرى.

القارئ للتاريخ السوداني الحديث يعرف أنّ الحكومات العسكرية تتحمّل الوزر الأكبر في انهيار الاقتصاد وتفشّي الفساد الإداري وإشعال الحروب الداخلية، لكن الخطاب الاعلامي الذي صنعته الحكومات العسكرية لتمجيد نفسها مكنّها من الجلوس في كرسي السلطة لأعوام طويلة رغم ديكتاتوريتها وشموليتها وفسادها، مثلما هو الحال في حكومة كلّ من جعفر نميري وعمر البشير.

هذا الخطاب الإعلامي الذي تبنته الحكومات العسكرية مارس نوعاً من أدلجة الفكر المجتمعي، فصارت قطاعات واسعة (وفق رأينا) من المجتمع لا تعترف إلا بالسلطة العسكرية أو سلطة الأنظمة الباطشة لما تحسبها من قوة فيها.

وبالعودة إلى انقلاب الإنقاذ عام 89 وما تلاه، يتبيّن لنا بصورة جلية عسكرة العقل السوداني، فما تلا انقلاب الحركة الإسلامية من صناعة مليشيات وكتائب موالية للنظام، وتسليح بعض المجموعات القبلية وعسكرتها، وعمل هالة إعلامية تُمجّد النظام ومليشياته ومقاتليها، كان بمثابة غسيل للمخ وحشد الشعب السوداني في صف النظام باستخدام الخطاب الديني.

قطاعات كبيرة من التكوين الاجتماعي السوداني لا تؤمن إلا بالحكومات العسكرية، تُغني وتصفّق لقادتها العسكريين، وتغضّ الطرف عن مساوئها

على جانب آخر، حاول نظام الحركة الإسلامية جاهداً إسكات صوت المعارضة بالبطش والتنكيل والاغتيالات، فعقلية الحوار السياسي والديمقراطية والحرية تنافي العقلية العسكرية التي سعى النظام لترسيخها في المجتمعات السودانية. فقام بتصويرها على أنّها مجموعات مارقة عميلة، مستخدماً الخطاب الإعلامي الرخيص ذاته. وبالرغم من أنّ التيارات المعارضة لم تُكسر شوكتها بالبطش، إلا أنّ موج الخطاب الديني غطى على خطاب المعارضة، فانحسرت شعبية الأحزاب، وزاد تمدّد شعبية العسكر.

ومع إهمال قطاع التعليم وانحسار الموارد المعرفية بالإضافة لنشر خطاب الإسلام السياسي وتمجيد العسكرة وحكوماتها من خلال أجهزة الإعلام الموجهة والمخاطبات الجماهيرية لمنسوبي حكومة المؤتمر الوطني ومسؤوليها، نال التخلّف من عقلية المجتمع، وصارت عقلية أشبه بعقلية الغاب، لا ترفع راية إلا للقوي الباطش وإن كان فاسداً، وهي ذاتها العقلية التي سمّاها الدكتور النور حمد بالعقل الرعوي. فبات السودانيون يرفضون خطاب الوعي والمنطق ويفضلون خطاب الحرب، ويفتحون المجال واسعاً لخطابات العسكر الحماسية ووعود النصر الضبابية، ويضيّقونه على خطاب السلم والحلول. بل يتخطى الأمر ليصل لتخوين كلّ القوى التي تدعو لوقف الحرب، مثلما هو الحال الآن في الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

مثالاً، وبالرجوع إلى تظاهرات سبتمبر/ أيلول 2013 في السودان يظهر بوضوح مدى خطورة العقلية المجتمعية التي رسّخها نظام المؤتمر الوطني، فبعدما قامت الأجهزة الأمنية باغتيال أكثر من 100 شاب برصاصها في الشوارع، نُصبت المنصات لمسؤولي نظام المؤتمر الوطني ليشكروا أجهزتهم الأمنية على فعلتها وسط تهليل وتكبير، واصفين جريمتهم بـ"حفظ الأمن"، ولأنّ عقلية المجتمع مصبوغة بتمجيد العسكر مرّت اغتيالات الأجهزة الأمنية وانتهاكتها مرور الكرام أمام المُغيبين من السودانيين، بل كُرّم القتلة على بطشهم ووُصف شهداء التظاهرات بالعملاء والشيوعيين. ومن الغريب أن شماعة الخيانة والعمالة والفوضى المنسوبة للشيوعيين منذ ستينيات القرن الماضي ما زالت تؤتي أُكلها حتى اليوم، ما يوضح مدى ضحالة العقلية العسكرية.

نال التخلّف من عقلية المجتمع، وصارت عقلية أشبه بعقلية الغاب، لا ترفع راية إلا للقوي الباطش وإن كان فاسداً

وفي حرب 15 إبريل/ نيسان ظهرت للعيان تلك العقلية، فصارت غالبية من السودانيين تؤمن بأنّ السلاح قادرٌ على الحسم النهائي للحرب. بالرغم من أنّ التاريخ لا يدعم هذه الفكرة، فكلّ الحروب التي خاضتها الحكومات العسكرية السودانية ومليشياتها انتهت إلى طاولة التفاوض والاتفاق، فوقعت الحكومة مع الحركة الشعبية في سويسرا اتفاقاً لوقف إطلاق النار في جبال النوبة في 2002، وانتهت حرب الجنوب باتفاقية نيفاشا 2005 بعد اتفاقية أديس أبابا 1972، ووقعت مع جبهة الشرق اتفاقاً في أسمرا 2006، ووُقع سلام دارفور في الدوحة 2011 بعد اتفاقية أبوجا 2006، والقائمة تطول... وبالرغم من أنّ كلّ الحروب الداخلية في السودان انتهت بطاولات التفاوض والاتفاقيات بعد الخسارات البشرية وخسارات البنى التحتية، ما زال بعض السودانيين متمسكين بحل البندقية ورفض السلام. 

تكمن المشكلة الكبرى والخطر الأكبر في أنّ هذه العقلية قد تأتي بحكم عسكري شمولي جديد إلى كرسي السلطة، فبعد أن صار واضحاً ضلوع المؤتمر الوطني في هذه الحرب وسيطرته على قرار قيادة القوات المسلحة، يقف الداعمون لاستمرار الحرب (بقصد أو بغير قصد) في صف واحد مع عناصر حزب المؤتمر الوطني الساعية للعودة إلى السلطة بالقوة. فبات قسم من السودانييين الآن يُمجّد كتائب المؤتمر الوطني المقاتلة بجانب الجيش، وهي ذاتها الكتائب التي مارست القتل على المتظاهرين السلميين في مختلف الحراكات السلمية وفي المعتقلات، وهي ذاتها الكتائب التي مارست الاغتصاب في معتقلات جهاز الأمن، والكتائب ذاتها المتورطة في إبادات عرقية في دارفور بجانب مليشيات الدعم السريع. لكن العقلية العسكرية التي ما زالت متمكنة من بعض أطياف المجتمع السوداني لا تهتم كثيراً لماضي تلك الكتائب، ولا تفكر في مآلتها بعد الحرب، فقد اعتادت بطش العسكر وارتضت عبوديتهم على الديمقراطية، واكتفت فقط بأن تصفّق على أصوات الرصاص وترقص على موسيقى الحرب والموت.

أحمد عصمت
أحمد عصمت
مُعد ومقدم برامج إذاعية، مهتم بالفنون عموماً وبالموسيقى والأدب العربي خصوصاً.