رأس الحكمة وغياب العقل

رأس الحكمة وغياب العقل

07 مايو 2024
+ الخط -

تروي نشرات الأخبار تفاصيل الحدث، عناوين الصحف تمجّد الصفقة، برامج "التوك شو" تهلّل وتحتفل بخروج مصر من أزمتها. أيام وأسابيع عاشتها وسائل الإعلام في الترويج لحدث وُصِفَ بأنّه سيُخرج مصر إلى طريق النور، إلى عالم المال والأعمال، حيث لا أزمة دولار، ولا تضخماً يلتهم مدخرات المواطن الذي أوشك الغلاء أن يُذهب عقله رغم سعادة قلبه بـ"رأس الحكمة".

بعد أسابيع من صفقةِ رأس الحكمة التي أعلنت مصر إبرامها مع الإمارات، وبعد انفراجةٍ مؤقتة في أزمة النقد الأجنبي، واقتراب تحويل الإمارات قيمة الدفعة الثانية من أموال الصفقة الاستثمارية لمشروع تطوير وتنمية مدينة رأس الحكمة على الساحل الشمالي الغربي، عادَ انقطاع التيار الكهربائي إلى الساحة، وارتفعت أسعار المحروقات مجدّدًا، وبدأ صراخ المواطنين بعد أن خمدت الاحتفالات الإعلامية والسياسية بالصفقة.

الصفقة تقترب من دفعتها الثانية البالغة 20 مليار دولار، والتي هي عبارة عن 14 مليار دولار سيولة مباشرة، إلى جانب 6 مليارات دولار تسوية الجزء الباقي من الودائع الإماراتية لدى البنك المركزي، وبذلك يبقى التعرّف إلى آليات إنفاق تلك المليارات، ودورها في حلِّ أزمة نقص النقد الأجنبي من عدمه.

من المرشَّح أن تلتهم أزمةُ الديون الخارجية مليارات الدولارات التي جمعتها مصر أخيرًا، فالأزمة تتضاعف، والحكومة مطالبة بسداد نحو 42 مليار دولار خلال الأشهر المقبلة، وذلك يعني أنّ كامل قيمة الصفقة التي كان جزء كبير منها إسقاط ديون مستحقة للإمارات، سيذهب ما بين ديون خارجية وتوفير الدولار اللازم لاستيراد المنتجات الغذائية الأساسية، كالقمح ومنتجات البترول والمواد الأولية من حديد أو صلب وخلافه.

نشرات الأخبار تتزامن مع  انقطاع التيار الكهربائي فلا تصل إلى مسامع البسطاء، ولا يشعرون إلا بحرارةِ مسكنهم

في الربع الأول من العام الجاري، بلغَ إجمالي شحنات الوقود المستوردة نحو 3.3 مليارات دولار، بزيادةٍ تصل إلى 6% مقارنة بالربع المماثل من العام الماضي، الذي شهد واردات بقيمة 3.1 مليارات، وذلك رغم تصريحات رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، التي أكد خلالها أنّ مصر ستحقّق الاكتفاء الذاتي الكامل من المواد البترولية في 2023.

ويأتي تراجع تحويلات العاملين في الخارج، وانخفاض إيرادات قناة السويس، ليعرقلا جهود حلّ أزمة النقد الأجنبي التي هي جوهرية في سير الاقتصاد المصري، المعتمد بشكلٍ شبه كلّي على الاستيراد. ورغم محاولات إيجاد بدائل لتوفير النقد عبر بيع الأصول، والمبادرات المتنوّعة كمبادرتي تسوية الموقف التجنيدي والسيارات، إلا أنّ الحكومة تظلّ في مواجهةِ نفقات دولارية أكبر بكثير من إجمالي المداخيل، وتلك ليس لها حل إلا بالتوسّع في القطاع الصناعي والتصدير الذي يوفّر إيردات كافية، ولكن ذلك الطريق يغفله السيسي وفريقه.

ومما يزيد الأمر تعقيدًا، انخفاض إيرادات قناة السويس بنسبة 50%، بعد أن أثّر فيها اضطراب حركة الشحن في البحر الأحمر، بحسب تصريحات وزيرة التخطيط المصرية هالة السعيد، وذلك يبرهن أنّ مصادر الدخل الدولارية لمصر يجب تعزيزها وتنمية الطرق البديلة التي لا تتأثر كثيراً بما يحدث في المنطقة، فطالما اعتمدت الحكومة على تحويلات العاملين بالخارج، التي تهبط وتزيد مع كلّ حركة في سعر الصرف أو خبر يتحدّث عن تعويم مقبل، كذلك السياحة تضرّرت بسبب الأحداث الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة.

وبينما تشتكي الحكومة من عدم تحمّل المواطنين لتلك الصعاب العالمية التي تواجهها، يشعر المواطن بالقلق من انقطاع التيار الكهربي، معتقدًا أنّه سيكون أسوأ بكثير عند دخول ذروة الصيف، ولم تفلح تصريحات المسؤولين في تهدئة تلك المخاوف، إذ إنّ نشرات الأخبار تتزامن مع انقطاع التيار الكهربائي، فلا تصل إلى مسامع البسطاء، ولا يشعرون إلا بحرارةِ مسكنهم.

ورغم أنّ الحكومة رفعت الدعم عن الكهرباء بشكلٍ كامل منذ 2021، وأعلنت التوسّع في بناءِ المحطات التي قالت إنّه أوجد فائضًا في الإنتاج يُباع لدولٍ أخرى، إلّا أنّها تبرّر انقطاع التيار بارتفاعِ درجات الحرارة بصورةٍ كبيرة ونقص الغاز والوقود اللازم للتشغيل، والتي أكدت في وقت لاحق أنّها حققت الاكتفاء الذاتي من إنتاجه!

الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس وزرائه مصطفى مدبولي، تفاخرا، مرارًا وتكرارًا، بإنجازات شراء ثلاث محطات لتوليد الكهرباء من شركة سيمنز الألمانية (قيل عنها إنّها المحطات الأكبر والأحدث في العالم!) إلّا أنّ حكومة السيد الرئيس حاولت بيع محطتين من تلك المحطّات، في محاولة لتخفيف سداد الأقساط والديون الناجمة عن الشراء، لكنها فشلت بسبب العقود مع الجهات الضامنة.

وعمدت وزارة الكهرباء بعد ذلك، إلى مضاعفة الإمداد الكهربي للدول المجاورة وتخفيف الأحمال داخل مصر لالتزام العقودِ المبرمة، وأقنعت المواطنين بأنّ الأزمة العالمية الناتجة من الحرب في أوكرانيا، ومن قبلها الجائحة، ومن بعدها الأحداث في غزّة، هي سبب رئيسي للمعاناة، وليس سوء التخطيط أو رداءة التطبيق.

وفي الختام، لن نغفل أن نبارك لمعالي رئيس الوزراء زواج كريمته، في حفل شارك فيه نجوم الفن والغناء، ونحمد الله أنّ التيار الكهربائي لم ينقطع خلال تلك المناسبة التي أسعدت مصر، قيادةً وشعبًا، نسأل الله لهم الرفاه والبنين، وللشعب الكهرباء.