حين يكون العالم كلّه ضفادع

حين يكون العالم كلّه ضفادع

07 ابريل 2024
+ الخط -

يمكن القول إنّها كانت جميلة فعلًا، إلّا أنّ شيئًا ظلّ يُحيّرني بخصوصِ ذلك الجمال الغريب. لقد ظلّت ملامحها تُذكرني بملامح ضفدعة.

 تستطيع أن تستنتج بسرعة أنّي أحاول هنا أن أختلق قصة ما، مفبركًا أحداثها من دماغي، أو أنّي أهلوس فقط. إلّا أنّ الأمر ليس كذلك هذه المرّة، ولا بالمرّة، إنّها الحقيقة.

 جميلة. ورغم ذلك، كلّما رأيتها، تتبادر إلى ذهني تلك الملامح الأخرى الخفية خلف ملامحها: ملامح ضفدعة جالسة عند حافة بحيرة تحدّق فيك قبل أن تنط في الماء هاربًة، مفلتةً بجلدها. من الصعب جدًا على الواحد تخيّل وجه ضفدعة في وجهِ امرأةٍ، ومن الصعب أيضًا تخيّل وجه امرأة في وجه ضفدعة، خصوصًا حين أقول لك إنّها جميلة فعلا، أو جميلتان معا: المرأة والضفدعة. 

قد يحتاج المرء إلى مزيدٍ من الحوافز كي يصدّق شيئًا كهذا، إلا أنّ ذلك حدث معي حقا، وأستطيع أن أؤكد لك أنّه ممكن جدًا وحقيقي جدًا، وخال من أيّة ألاعيب سحرية من تلك التي يُتقنها الحواة أو القصاصون المهرة.

جاءت إلى موعدنا الأوّل مثلما تأتي النسمة في عزّ الصيف. قبّلت يدها الرقيقة فابتسمت، وتمشينا في اتجاه المقهى. نحيفةً، فارعةَ الطول، جذابةً للغاية، ولخطواتها على بلاطات المدينة أصواتُ أجراس كنسية بعيدة. كثيفة الشعر بوحشيةٍ كشجرة دردار في ذروة الربيع، تحزمه إلى ظهرها إلّا أنّه سرعان ما ينفلت كفيضانِ شلال كلّ مرّة.

جلسنا، فلاحظتُ أنّها بيضاء جدا ذلك البياض الموريسكي الخالص، دون شبهة دماءٍ ملوثة، والذي يجعلك تخمّن أنّك قادر على خدشه بنظراتك فقط حتى يحمر. جلسنا متقابلين، وكلّ ما كانت تُجيده هو الابتسام. 

يحتاج المرء إلى مزيدٍ من الحوافز كي يصدّق شيئًا كهذا، إلا أنّ ذلك حدث معي وأستطيع أن أؤكد لك أنّه ممكن جدًا وحقيقي جدًا

حدّقت جيّدا، وهي مبتسمة، فرأيت الضفدعة بوضوح. ثم توقفت لحظة عن الابتسام لتتكلّم فاختفت الضفدعة. تكلمنا قليلًا إلا أنّي فقدت تركيزي. إذ الأمر الوحيد الذي ظلّ يُشغلني منذ تلك اللحظة، ليس هو جمالها، بل متى تظهر الضفدعة، ومتى تختفي، وهي ضفدعة جميلة على أيّة حال، وليس كما قد تتخيّلها أنت. بعد ذلك نهضت إلى المرحاض وتأخرت قليلًا بينما انشغلت أنا بهاتفي. لم أنتبه إلّا وقد عادت إلى مكانها فوق الكرسي المقابل لي، فإذا بها هذه المرة ضفدعة حقيقية ترتدي ثياب الفتيات العصريات وتضع مكياجًا، وتحمل في يدها حقيبة نسوية جميلة. سقط الهاتف من يدي، وقد صُعقت، فاتحًا فمي كأبله.

سألتني مندهشة: ما بك؟ بلعتُ ريقي وحدّقت، يمينًا ويسارًا، كمن يحاول أن يجد منفذًا للهرب، فلاحظت أنّ أمرها لم يدهش أحدًا من روّاد المقهى الذين ظلّوا جالسين كما لو أنّها ليست ضفدعة! تأملت ثيابها، فوجدت أنّها نفس ثياب الفتاة التي كانت معي قبل قليل، ونفس صوتها. كرّرت سؤالها محافظة على ابتسامتها: ما بك؟ هل أنت بخير؟ أجبتها متفاديِا النظر في وجهها: نعم بخير. ربّما فقط أظن أنّي شربت شيئًا فاسدًا.

حملت كأس القهوة أتفقده في يديّ. قَهقهتْ بأنوثةٍ مفرطة، وقالت بصوت ناعم: حسنا. ماذا كنّا نقول؟ نظرتُ إليها، وقد توقفتْ عن الابتسام، فلاحظتُ أنّ ملامح فتاة تظهر في وجهها كلّما توقفت عن الابتسام، بينما تطغى ملامح الضفدعة كلّما ابتسمت. صرخت فيها كالمعتوه: لا تبتسمي من فضلك. لا تبتسمي. ابقي كما أنت... آملا أن تعود ملامحها إلى طبيعتها الإنسية الأولى. إلّا أنّ كلامي سبّب لها نوبة ضحك قصوى على ما يبدو، فاختفتْ ملامح الفتاة بالكامل من وجهها بحيث لم تبق إلا ملامح الضفدعة، خالصةً لا يُخالطها شيء، وقد نقّت نقيقًا، خفيفًا، أثناء الضحك. 

جاء النادل في تلك اللحظة ببذلته الأنيقة الموحدة، وبربطةِ عنق الفراشة، ووضع أمامنا صحنين صغيرين فوق كلّ واحد حلوى. شَكرته مبتسمةً بوجهِ الضفدعة، فردَّ عليها بانحناءةِ جنتلمان، وانصرف دون أن تُدهشه ملامحها أو أن يجد بعض الريبة في أمرِ ضفدعةٍ ترتدي ثياب فتاة وتجلس في مقهى "الساتيام آر"، وتمص عصير البرتقال عبر شفاطة. 

راقبت النادل وهو ينصرف، فلاحظت أنّه لا يمشي، بل ينط والصينية في يده دون أن تسقط الكؤوس والصحون. ينط كضفدعة، استدرت، يمينًا ويسارًا، فوجدت أنّ الجميع قد تحوّلوا إلى ضفادع سعيدة تشرب القوة والعصير وتدخن وتقهقه.

أخذت نبضات قلبي تتسارع. تلمست وجهي بيديّ، فإذا بي أجده عاديًا. قمت مرتعبًا، وقد أسقطت صحن الحلوى، هرعت إلى الحمام لأرى وجهي في المرآة، رأيت وجه إنسان منعكسًا أمامي فازداد رعبي كما لو أنّي أحلم. فتحت صنبور الماء، ووضعت رأسي تحته وقلبي يخفق بقوة. أخيرًا، شعرت ببعضِ التحسّن تحت برودة الماء، وشعرت كما لو أنّ مفعول مخدرٍ قوي يزولُ عن وعيي. رفعت رأسي، فرأيت وجهي منعكسًا في المرآة بوضوح: إنّه وجه ضفدع. إنّه وجهي الحقيقي الذي يجب أن يكون بما أنّ العالم هنا كلّه ضفادع، الوجه المنقذ من الكوابيس. هدأت نبضاتي وارتاحت نفسي وقد عاد إليّ وعيي أخيرا. 

شعرتُ بنسماتٍ لطيفةٍ تداعب وجهي، وأنا أغادر الحمام ثمّ اطمأن قلبي أكثر حين رأيت على جدار المقهى صورةً كبيرةً لضفدعٍ مشهور يعزف على الساكسافون.

جلست فسألتني: ما بك؟ لا تبدو لي على ما يرام.

أجبتها: الآن أنا بخير. ماذا كنا نقول؟

-كنا نتحدث عن سعر الإجازات الصيفية الباهظ في المستنقعات.

-نعم.. المستنقعات.. نعم.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.