حوارٌ مع صديقةٍ ألمانيةٍ: نرفض أن نكون أعداءً (5)

حوارٌ مع صديقةٍ ألمانيةٍ: نرفض أن نكون أعداءً (5)

10 يناير 2024
+ الخط -

مقدمة المحرّر: يشكّل الموقف الألماني من الصراع العربي/ الفلسطيني الإسرائيلي مسألة غير مفهومة وإشكالية للكثيرين في العالم العربي، نظراً لخصوصية التاريخ الألماني في ما يتعلّق بما ارتكبه الحكم النازي ضد اليهود من محارق بشعة، مضافة إليها الترتيبات والسياسات الألمانية اللاحقة بعد سقوط النازية، في محاولة للتكفير عن هذا الماضي. هنا حوار سيُنشر على شكل سلسلة بين الدكتور حسام الدين درويش والناشطة الألمانية كورنيليا زِنغ، يطرح كلاهما وجهةَ نظره، بحثاً عن نقاط التقاطع، وفي محاولة جازمة وحازمة لرفض الصور النمطية عن الآخر، وتقبّل الاختلاف، والأهم محاولة الفهم بشكل عميق وحقيقي.

(يمكن قراءة الجزء الأول والثاني والثالث والرابع)

كورنيليا زِنغ:

هل أنت غير راضٍ عن حوارنا؟ أنت تقول إنّنا نحن ندور في دوائر. كما هو الحال في الحلقة المفرغة، تبقى الأمور على حالها دائمًا. هل ظننت أنك ستقنعني بهذه السرعة؟ في تقرير عن مدْرَسة إسرائيليةٍ فلسطينيةٍ، قرأت اليوم الجملة التالية، لبيتر مونش، في صحيفةٍ ألمانيةٍ: "ليس الهدف تحديد من هو على حق، بل إيقاظ الفهم لدى الطرف الآخر". سيتم تحقيق الكثير إذا فهم كلٌّ منّا موقف الآخر.

لقد شرحت لي، مرارًا وتكرارًا، أنك كنت، في البداية، إنسانًا، ثم عربيًّا، ثم سوريًّا. هذا مهمٌّ جدًّا بالنسبة لك. لا أستطيع أن أقوم بمثل هذا التقسيم لنفسي. لقد كنت، دائمًا، إنسانةً وامرأةً، في الوقت نفسه، نشأت في ألمانيا. لا أستطيع أن أتخلّى عن هويتي. لا وجود لي بأيّ طريقةٍ أخرى. ولا أستطيع أن أتخيّل نفسي، بأيّ طريقةٍ أخرى.

كان هناك جدلٌ ساخنٌ في الكنيسة الأولى حول ما إذا كان يسوع هو الله أم الإنسان. وماذا كان أوّلًا؟ ما النسبة المئوية التي كان فيها الله، وما النسبة المئوية التي كان فيها الإنسان؟ ولحسن الحظ، اتفق الأساقفة القدماء على صيغة "غير مختلط وغير منفصل" (451 في خلقيدونية، إحدى مناطق إسطنبول الحديثة). مفارقة! هذا هو الشكل الأساسي للفكر في العقائد المسيحية. وأود أن أقول ذلك عن نفسي أيضًا: "غير مختلطة وغير منقسمة". أنا مجرّد إنسانةٍ ألمانيةٍ. هذا هو، بالضبط، ما هو مثيرٌ للاهتمام، في حوارنا: ما أعتقده أنا الألمانية، وما تعتقده أنت السوريٍّ. أحتاج إلى وجهة نظرك، وتجربتك، وتجارب العديد من الأشخاص الآخرين. لا يوجد شيء اسمه إنسانيةٌ محايدةٌ. ويبدو أننا نختلف، اختلافًا أساسيًّا، حول هذه النقطة. سألتزم بهذه الرؤية الأساسية. واهتمامك هو التحدّث إلى شخصٍ ألمانيٍّ، وليس إلى أي شخصٍ آخر. أليس كذلك؟ على سبيل المثال، عندما يقال إنّه خلال مجزرة 7 أكتوبر/ تشرين الأول، تعرّضت النساء للاعتداء والاغتصاب من قبل حماس، وتمّ التخلّص منهن مثل القمامة، فإنّ ذلك يؤثر عليّ كامرأةٍ، تأثيرًا خاصًّا. لقد كان عليّ أن أخاف من عنف الذكور طوال حياتي. لذا، في رأيي، لا يوجد شيء اسمه إنسانٌ "محايدٌ". ومن المرجح أن نبقى مختلفين حول هذا الأمر.

أنت تواصل مطالبتي بإدانة إسرائيل مرارًا وتكرارًا. وأنا أرفض فعل ذلك. أنا لست قاضية العالم! تعرّض اليهود للاضطهاد مرارًا وتكرارًا، لعدّة قرون. أفهم أنّ هذا يؤدي إلى رؤيةٍ مختلفةٍ للعالم، ولحساسيةٍ مختلفةٍ. أستطيع، أيضًا، أن أتفهم الصدمة التي تعرّض لها الفلسطينيون بسبب الطرد. لا أجرؤ على الحكم على ماهية ما ينتج عن ذلك من ردود الفعل، وسوء الفهم، وأي فرصٍ ضائعةٍ لعملية توحيدٍ ناجحةٍ. ليس من حقي أن ألوم أحدًا.

كورنيليا زنغ: هذا هو، بالضبط، ما هو مثيرٌ للاهتمام، في حوارنا: ما أعتقده أنا الألمانية، وما تعتقده أنت السوريٍّ. أحتاج إلى وجهة نظرك، وتجربتك، وتجارب العديد من الأشخاص الآخرين. لا يوجد شيء اسمه إنسانيةٌ محايدةٌ

مثل حوالي نصف الإسرائيليين، أنا لا أتفق مع حكومة نتنياهو اليمينية. وأجد أنّه من المقيت أن يتحدث عن "الانتقام"، وأنّه يريد تدمير كلّ أنصار حماس. والآن يطالبه الأميركيون، أيضًا، بالاعتدال! كما أنّني سأقف ضد هذه الحكومة الإسرائيلية وقراراتها! إنها تُعرِّض الديمقراطية في إسرائيل للخطر! لكنك مهتمٌّ بإسرائيل عمومًا، وليس بالحكومة اليمينية الحالية فقط.

أنا أؤيد حق إسرائيل في الوجود. وبالطبع الفلسطينيين! وأعتقد أنّه من الجيّد أن تكون لليهود دولتهم الخاصة. بالمناسبة، لا يتم تعريف اليهودية فقط من خلال الدين، ولكن أيضًا من خلال النسب من أمٍّ يهوديةٍ. هناك العديد من اليهود العلمانيين! وبهذا التعريف، استوعبت إسرائيل العديد من اليهود من أفريقيا والشرق. ولسوء الحظ، لم ينموا، معًا، في مجتمعٍ واحدٍ مع اليهود القادمين من أوروبا. ربّما يكون الانقسام داخل إسرائيل إحدى مشاكل اليوم. لذا، أنا مع حق إسرائيل في الوجود، ضمن الحدود المتفق عليها. علاوةً على ذلك، لليهود تاريخٌ طويلٌ مع البلاد.

أنا لا أشاركك رأيك بأنّنا ندور في حلقةٍ مفرغةٍ. دعنا نفكر في كيفية العيش معًا، في المستقبل، هنا في ألمانيا، وفي إسرائيل وفلسطين. هذا أمرٌ صعبٌ بما فيه الكفاية.

حسام الدين درويش: أرى أنّ المشكلة (الأساسية) لا تكمن في أنّني لم أستطِع إقناعك (بسرعة)، وإنما تكمن، خصوصًا أو تحديدًا، في أن أكون بحاجةٍ إلى إقناعك، أصلًا. ففي حواري معك، حتى الآن، اقتصرت على ما أظن أنّه بديهياتٌ أو أساسياتٌ ينبغي أن يتبناها كلّ إنسانٍ لديه حدُّ أدنى على الأقل من المعرفة والإنصاف، بغضّ النظر عن كونه رجلًا أو امرأة، ألمانيًّا أو عربيًّا، مسلمًا أو مسيحيًّا ... إلخ. 

أنت تقولين إنّ "الهدف ليس القول من هو على حق ..."، لكنك، منذ البداية، وحتى الآن، تتحدثين عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بدون الحديث عن حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم أيضًا. كما تتحدثين عن حق إسرائيل في الوجود، مع أنّ هذا الوجود يتخذ صيغة الاحتلال والاستعمار والاستيطان والإنكار العملي والنظري لحق دولة فلسطين في الوجود. إسرائيل موجودةٌ، وتحتل أراضي دولة فلسطين، وتمنع وجودها، وتدمر حتى إمكانية هذا الوجود. ومع ذلك فإنّ الحديث، في الموقف الألماني/ الإسرائيلي، هو عن ضرورة الاعتراف بدولة الاحتلال الإسرائيلية، وبحقها في الوجود، دون الحديث عن ضرورة الاعتراف الإسرائيلي والألماني والعالمي بالدولة الفلسطينية، وبحقها في الوجود والدفاع عن نفسها بكلّ الوسائل المشروعة وفقًا للقانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان. أليس هناك إمكانية وضرورة لإطلاق الأحكام، هنا، في خصوص دولةٍ (إسرائيل) تحتل أراضي دولةٍ أخرى (فلسطين)، وتقوم، من خلال الاستيطان والقوة والعنف، بقمعٍ لشعبِ الدولة المحتلة، وتدميرٍ منهجيٍّ لإمكانية قيام تلك الدولة، لدرجة جعلها مستحيلة التحقيق؟

أنا لم أقل إنني كنت في البداية إنسانًا، ثم عربيًّا، ثم سوريًّا. وإنّما قلت إنني لا أتحدث بوصفي عربيًّا أو مسلمًا، وإنما من منظورٍ إنسانيٍّ، أرى أنّه ينبغي لكلّ إنسان تبنيه، بغضّ النظر عن انتماءاته أو جنسيته وجنسه ودينه.. إلخ. فالمنظور الذي أتحدّث عنه لا يتحدّد، بالدرجة الأولى، بكوني رجلًا أو مسلمًا أو عربيًّا. فوجهة نظري قد تختلف عن وجهة نظر عرب ومسلمين كثيرين، وقد تتفق مع وجهة نظر امرأة ألمانية مسيحية أو ملحدة. وأظنّك تذكرين أنّنا كنّا نتفق في أمورٍ كثيرةٍ، على الرغم من كونك امرأةً ألمانيةً، وكوني رجلًا سوريًّا/ عربيًّا. وحتى في موضوع فلسطين/ إسرائيل، يمكن لألمانيٍّ أن يتفق مع عربيٍّ. وعلى سبيل المثال، سرّني تعليق صديقنا الدكتور هارالد بيرغِرهوف على الجزء الأول من حوارنا، المنشور باللغة الألمانية. فقد رأيت في موقفه توازنًا مفتقدًا في الموقف الألماني الرسمي. وأظن أنّني أتفق معه أكثر من اتفاقي مع كثيرين من العرب والمسلمين. باختصارٍ، أرى أنّ انتماءاتنا لا تحدّد مواقفنا بالضرورة، وأنه ينبغي لنا أن ننطلق من أساسٍ إنسانيٍّ معرفيٍّ وأخلاقيٍّ وقانونيٍّ مشتركٍ، وليس من اختلاف منظوراتنا ونسبويتها وفقًا لانتماءاتنا المختلفة. وهذا ليس تخليًّا عن الهوية، بل هو تحديدٌ لها، وخروجٌ من سجنها الضيّق. والإنسان الذي أتحدّث عنه ليس محايدًا مطلقًا، بل هو منحازٌ، من حيث المبدأ، على الأقل، إلى الموضوعية المعرفية، والإنصاف الأخلاقي، والحصافة السياسية.

حسام الدين درويش: إسرائيل موجودةٌ، وتحتل أراضي دولة فلسطين، وتمنع وجودها، وتدمر حتى إمكانية هذا الوجود

ثقافيًّا ومعرفيًّا وأخلاقيًّا، لا أرى أنني "مجرد إنسانٍ عربيٍّ"، أو أنّ هويتي تتحدّد بجنسي أو جنسيتي، وبالعربية أو الإسلام، فقط. فهذا، كلّه، جزءٌ منها بالتأكيد، لكن هويتي الشخصية تتجاوز ذلك، وتتضمن غيره بالتأكيد، أيضًا. وأرى أنّ الأمر ذاته ينطبق، من حيث المبدأ، ليس على هويات كلّ الأفراد فحسب، بل ينطبق، أيضًا، على كلّ الهويات الجمعية والجماعية. ربما ترين أنني لا أستطيع التحدث إلا بوصفي عربيًّا أو مسلمًا أو رجلًا ... إلخ. لا مشكلة في ذلك، المهم هنا هو عدم الافتراض أنّ كوني عربيًّا أو مسلمًا أو رجلًا يجعلني، بالضرورة، متبنيًّا لهذا الموقف أو ذاك. فهناك أمورٌ إنسانيةٌ كثيرةٌ تتجاوز هوياتنا الضيّقة أو الفهم الأحادي أو الضيّق لهذه الهويات، ولولا ذلك لما أمكننا التواصل أصلًا. وأظنك تتذكرين أنني ذكرت هذه المسألة تعقيبًا على قول شخص لك، إنّه في خصوص الوضع (الحالي) في فلسطين وإسرائيل، "لا يمكن التحدث مع الفلسطينيين"، وعلى قول أشخاصٍ لي "لا يمكن أن يكون هناك حوارٌ مفيدٌ أو مثمرٌ مع الألمان".

أنت تقولين إنك ترفضين إدانة إسرائيل بحجة أنك "لست قاضية العالم". قد يبدو ذلك مفهومًا ومعقولًا، لوهلةٍ أو أكثر. لكن هل تلك الإدانة بحاجةٍ إلى أن يكون الشخص قاضي العالم؟ هل إدانة قتل حوالي 25 ألف شخصٍ فلسطينيٍّ (حتى الآن فقط)، معظمهم أبرياء مدنيون وأطفال ونساء وكبار في السن، وتهجير حوالي مليوني إنسانٍ، ومنع إمدادهم بأبسط متطلبات الحياة من ماءٍ وغذاءٍ ووقودٍ ودواءٍ ... إلخ، بحاجةٍ إلى أن يكون المرء "قاضي العالم". وحتى إذا سلمنا بأنّ إدانة ما يحصل في فلسطين وإسرائيل بحاجةٍ إلى أن يكون المرء "قاضي العالم"، كيف يسمح متبنو الموقف الألماني/ الإسرائيلي لأنفسهم، إذن، بأن يدينوا حماس وهجومها في السابع من أكتوبر، ويطلقوا كلّ الأحكام المعروفة عليها. يبدو لي أنّ متبني الموقف الألماني/ الإسرائيلي هم قضاة العالم حين يتعلّق ذلك العالم بحماس وبكلّ أعداء إسرائيل ومنتقديها فقط. أما في خصوص (جرائم) إسرائيل، فإنهم يعلِّقون الأحكام، ويتوقفون عن لعب دور القاضي تجاهها، ليتحولوا إلى محامين عن إسرائيل، وقضاة يحاكمون منتقدي جرائمها، ويحكمون عليهم بأقسى الأحكام، ويسعون إلى معاقبتهم بأشدّ العقوبات، أيضًا.

كورنيليا زنغ: لقد كنت، دائمًا، إنسانةً وامرأةً، في الوقت نفسه، نشأت في ألمانيا. لا أستطيع أن أتخلّى عن هويتي. لا وجود لي بأي طريقةٍ أخرى. ولا أستطيع أن أتخيّل نفسي، بأي طريقةٍ أخرى

هل يمكن أن يكون هناك حوارٌ أو نقاشٌ (مفيدٌ أو منتجٌ) أو فهمٌ، عمومًا، وفي ما يتعلق بالوضع في فلسطين/ إسرائيل خصوصًا، دون أن يتضمن أحكامًا معرفيةً، على الأقل، وربما أخلاقيةً وقانونيةً وسياسيةً، أيضًا، عمّا هو صحيح وما هو كاذبٌ، عمّا هو موضوعيٌّ وما هو زائفٌ، عمّا هو حقٌّ وما هو باطلٌ، عمّا هو خيرٌ وما هو شريرٌ، عمّا هو قانونيٌّ وغير قانونيٍّ؟ لا أعتقد بإمكانية وجود معرفةٍ أو فهمٍ أو حوارٍ لا يتضمن مثل هذه الأحكام. وفي حال شعر أو اعتقد المرء بأنه غير قادرٍ على الحكم، لسببٍ من الأسباب، يمكن لمن يهمه الأمر أن يبحث عن المعرفة وعن الفهم، بما يساعده على إطلاق الأحكام، أو يمكنه عدم الاكتراث بذلك، وتجاهل الأمر برمته. وإذا كان متبنو الموقف الألماني/ الإسرائيلي لا يستطيعون أن يكونوا قضاةً، في هذا الخصوص، أليس من الممكن والمفضّل أن يستندوا إلى آراء القضاء والقانون الدولي وهيئة الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الأممية والعالمية التي تدين الاحتلال الإسرائيل وجرائمه، قبل السابع من أكتوبر وبعده؟

لحسن الحظ، تقدّمت جنوب أفريقيا بشكوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة في عدوانها على قطاع غزّة، وطلبت جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية إصدار أوامر عدّة، منها أن تعلِّق إسرائيل، فورًا، هجومها في قطاع غزّة، وأن تضع حدًّا للتهجير، وأن تسمح بوصول المساعدات الإنسانية، وأن تحافظ على الأدلة. لست متفائلًا بأيّ نتيجةٍ عمليةٍ مفيدةٍ (كثيرًا) من هذه الشكوى، حتى لو أدانت المحكمة إسرائيل وطالبتها بوقف هجومها الإجرامي. فإسرائيل تتجاهل، منذ عشرات السنين، عشرات أو مئات القرارات والمطالبات القانونية والدولية، لأنها تحظى بدعم معظم القوى الدولية المهيمنة (أميركا، والدول الغربية التابعة لها، مثل ألمانيا، تحديدًا). ولن يضيرها تجاهل قرار المحكمة رغم أنّه ملزمٌ لها نظريًّا. فالمسألة مسألة قوةٍ، والقدرة على (إساءة) استخدام هذه القوة، دون الخضوع للمحاسبة أو المساءلة أو للردع، وليست مسألة التزامٍ مبدئيٍّ بالقوانين والتشريعات الدولية ومنظومة حقوق إنسان.

"هل تدين (هجمات/ جرائم) حماس؟"، هذا هو السؤال الذي يودّ متبنو الموقف الألماني/ الإسرائيلي التركيز عليه. وهم، بالطبع، مستعدون للإجابة عنه، ولقبول إجابةٍ واحدةٍ وأحاديةٍ عنه فقط: نعم، بالتأكيد، وقطعيًّا. وهذا السؤال (كان) أوّل سؤالٍ يتم طرحه في معظم اللقاءات التي تجريها الوسائل الإعلامية الغربية (الأميركية والألمانية والبريطانية والفرنسية ... إلخ)، مع ضيوفها الناقدين أو المنتقدين لإسرائيل، عند مناقشة الأوضاع الحالية في إسرائيل وفلسطين. أمّا سؤال "هل تدين (هجمات/ جرائم) إسرائيل؟"، فيبدو، في السياقات المذكورة، غائبًا أو مغيَّبًا على الأقل، ومزعجًا أو مدانًا وغير مناسبٍ ولا معقولٍ، عمومًا، من منظور متبني الموقف الألماني/ الإسرائيلي، حتى بعدما بلغ عدد ضحايا الهجمات/ الجرائم الإسرائيلية أكثر من عشرين ضعف عدد ضحايا هجمات/ جرائم حماس!

تقولين إنك، مثل حوالي نصف الإسرائيليين، لا تتفقين مع "حكومة نتنياهو اليمينية". هل تعلمين أن معظم اليهود الإسرائيليين، ومنهم المعارضون لنتنياهو، والأغلبية الساحقة من السياسيين اليهود الإسرائيليين، في البرلمان وخارجه، يعارضون حل الدولتين الذي يتضمن قيام دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ على كامل الأراضي المنصوص عليها في قرارات الأمم المتحدة؟ كلامك يعطي الانطباع بأنّ المشكلة عابرةٌ أو جزئيةٌ وتتعلق بنتنياهو وحزبه ومؤيديه فقط، مع أنّ موقف الأحزاب المعارضة لنتنياهو، في خصوص حل الدولتين، لا يختلف (كثيرًا) عن موقف نتنياهو وحلفائه اليمينيين. وهذا الموقف الرافض لحل الدولتين موجودٌ منذ عشرات السنين. وإذا كانت لديك معلومة عن أيّ سياسي إسرائيلي (مهم) أو أي حكومة إسرائيلية أعلنت قبولها بحل الدولتين، وفقًا لقرارات الأمم المتحدة، أتمنى منك أن تزوّديني به، لأنّه على حدّ علمي لا وجود لمثل هذا الإعلان على الإطلاق، بل هناك الكثير من الإعلانات المناقضة له.

تسألينني، في بداية نصك، عمّا إذا كنت غير راضٍ عن حوارنا. وتدعين، في نهايته، إلى التفكير في كيفية العيش معًا في المستقبل، هنا في ألمانيا، وفي إسرائيل وفلسطين.

إجابتي عن السؤال، بصراحةٍ وودٍّ، هي: كلا، لا أشعر، عمومًا، أنني راضٍ عن حوارنا، لأنني أعتقد أننا نختلف على مسائل لا يمكن للحوار المفيد والمثمر أن يتحقق بدون الاتفاق عليها. لكنني أشعر بجزيل الامتنان لك، وأشكرك جدًّا، لأنك قبلت الحوار معي في هذا الموضوع الذي يشكل (أحد) أقوى التابوهات في ألمانيا، ولأنك ما زلت مستعدةً للمضي قدمًا في هذا الحوار، رغم كلّ العقبات والصعوبات النفسية والمعرفية والسياسية. من جهتي، أشعر أنني "يائسٌ desperate" بالمعنى الإنكليزي لهذه الكلمة. فمن ناحيةٍ أولى، لديّ إحساسٌ بأنّ "الوضع سيئ للغاية، لدرجة أنه من المستحيل التعامل معه"، وتحقيق العدالة، والوصول إلى تفاهمٍ موضوعيٍّ منصفٍ، في خصوصه، بين الأطراف المختلفة المعنية به. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، أشعر بوجود "حاجةٍ كبيرةٍ ورغبةٍ شديدة في فعل/ قول شيءٍ ما"، في هذا الخصوص. وحواري معك هو تجسيدٌ لهذه الرغبة، رغم أنه يتضمن، أحيانًا، ما يعبِّر عن إحساسي باليأس أو فقدان الأمل.

أمّا في خصوص الدعوة إلى التفكير في كيفية العيش معًا في المستقبل، هنا في ألمانيا، وفي إسرائيل وفلسطين، فأراها أمرًا مفيدًا وإيجابيًّا، وأشكرك عليها، ويسرني أن ألبيها، وأشارك معك في هذا التفكير الضروري والمهم.

حسام الدين درويش: التوسيع المستمر لمفهوم "معاداة السامية" يسيء للمفهوم، ويفرغه من معناه، ولا يساعد على التخلص من المعاداة الفعلية للسامية

ففي ما يتعلّق بالوضع في فلسطين وإسرائيل، أرى أنّ الحل يتمثل، إمّا في قيام دولتين مستقلتين (إسرائيل وفلسطين) تعترف كلّ منهما بالأخرى، وتتعاون معها، ولا تعتدي عليها، أو في قيام دولةٍ ديمقراطيةٍ واحدةٍ يتساوى فيها جميع المواطنين أمام القانون، وفي الحقوق والواجبات، بغضّ النظر عن كونهم يهودًا أو مسلمين، إسرائيليين أو فلسطينيين. ومن وجهة نظري، العقبة الرئيسة أمام كلا الحلين هو الرفض الإسرائيلي. والسؤال الرئيس هنا، ما الذي يمكن وينبغي للفلسطينيين (ولغير الفلسطينيين) فعله، في مواجهة هذا الرفض الإسرائيلي؟ وإذا استمر هذا الرفض، ولم يتجاوب مع كلّ الدعوات السلمية، ألا يحق للفلسطينيين اللجوء إلى كلّ أشكال المقاومة المشروعة، بما في ذلك المقاومة المسلحة، لتحرير أرضهم وإجبار المحتل على الانسحاب منها؟ وما الذي ينبغي فعله مع المليون مستوطنٍ إسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية؟ ألا يحق للفلسطينيين، وفقًا للقانون الدولي، المطالبة بطرد هؤلاء المستوطنين، والعمل بكلّ الطرق المشروعة، ومنها المقاومة المسلحة، على إخراج هؤلاء المستوطنين من الأراضي التي يقيمون فيها بدون وجه حقٍّ؟ وماذا عن حق الملايين من الفلسطينيين الذين يحق لهم، وفقًا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، العودة إلى أراضيهم، أو أراضي آبائهم، التي هجِّروا منها، منذ عامي 1948 و1967؟ أتفق معك أنّ الموضوع صعبٌ للغاية، وأرى أنّ الأسئلة التي يتضمنها أكثر صعوبةً وإشكاليةً من كلّ الأسئلة التي طرحناها، في حوارنا، حتى الآن.

كثيرون لا يحبذون، من حيث المبدأ، طريق المقاومة المسلحة، لكن في ظلّ تصلّب وتعنّت الموقف الإسرائيلي، وفي ظلّ الدعم الغربي الهائل له، لا يجد معظمهم أنّ هناك طريقًا آخر أمام الفلسطينيين لاسترداد حقوقهم، واستعادة أراضيهم وتمتعهم بالحرية والكرامة في دولتهم المستقلة أو في دولةٍ ديمقراطيةٍ واحدةٍ مع الإسرائيليين. ويرون أنه لتجنّب هذا الخيار، وما يتضمنه من خسائر هائلةٍ في الأرواح والممتلكات، ينبغي أن تضغط كلّ الدول عمومًا، والدول الغربية خصوصًا، على إسرائيل، للقبول سلميًّا بحل الدولتين أو حل دولة المواطنة الديمقراطية الواحدة. ويشيرون إلى أنّ السلطة الفلسطينية والسلطات العربية أعلنت مسبقًا قبولها بحل الدولتين، واستعدادها للاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقاتٍ وثيقةٍ ووديةٍ معها، في حال قبولها بهذا الحل. وهذا يعني أنّ الكرة في ملعب إسرائيل وداعميها منذ زمنٍ طويلٍ. 

وكالعادة، لم أناقش الكثير من المسائل المهمة التي أثرتِها. فمثلًا، لم أفهم ما علاقة الإجرام أو الاحتلال الإسرائيلي بمعاناة يهودٍ سابقًا في أوروبا من النازية أو من غيرها. هل يعطي ذلك اليهود ميزةً إضافيةً بحيث يُسمح لهم باحتلال أراضي غيرهم وبارتكاب جرائم بحق أهلها؟ أرجح وآمل أن تكون إجابتك عن هذا السؤال هي النفي. ولتجنّب الإطالة أكثر مما أطلت، سأؤجل الحديث عن هذا الموضوع وعن موضوع "كيفية العيش معًا في المستقبل، هنا في ألمانيا". لكنّني أودّ الإشارة، سريعًا، إلى أنّ الحكومة الألمانية تدين وتسعى إلى منع أو معاقبة أيّ نشاطٍ معارضٍ لإسرائيل أو منتقدٍ لها، حتى لو كان قانونيًّا. ويبدو ذلك واضحًا، على سبيل المثال، في القرار الذي اتخذه البرلمان الألماني في أيار/ مايو 2019، في خصوص حركة مقاطعة إسرائيل، حيث أدان تلك المقاطعة، ووصفها بأنها "معادية للسامية"، وأشار إلى أنّها تذكّر بالحملة النازية ضد اليهود! هذا التوسيع المستمر لمفهوم "معاداة السامية" يسيء للمفهوم، ويفرغه من معناه، ولا يساعد على التخلص من المعاداة الفعلية للسامية. ومن حسن الحظ أنّ المحاكم الألمانية المختصة لم تقبل بهذا التفسير السياسي لمفهوم "معاداة السامية". لكن الحكومة الألمانية ما زالت تحارب حركة المقاطعة، رغم أنّها حركةٌ سلميةٌ ضد الاحتلال الإسرائيلي الاستعماري الاستيطاني. والسؤال، هنا: هو كيف يمكن إرغام إسرائيل على التخلّي عن الاحتلال والاستيطان والاستخدام المفرط للقوة والعنف، إذا كانت حتى المقاطعة السلمية لها أمرًا مدانًا، من منظور متبني الموقف الألماني/ الإسرائيلي؟

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش

حسام الدين درويش

باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".

 

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".