حرب غزّة... عن الإبادات في الفكر والأدب
يبدو أنّ كلّ حدث جلل (مثل حرب غزّة) يحرّك الذاكرة بالضرورة، ويُذكِّر بالكثير مما يُحيل على الحدث ويتقاطع معه، في تأكيد للقول المأثور بأنّ "التاريخ يعيد نفسه"، حيث لا اختلاف إلا في التفاصيل الهامشية: من وكيف وأين؟
حرب غزّة وكلّ ما فيها من قتل وتدمير تُذكر كثيرًا بأحداث مشابهة، قديمة وحديثة، أحداث إبادة واقتلاع: الهنود الحمر في أميركا، الموريسكيون في الأندلس، رواندا، البوسنة، أبو غريب في العراق (الصور الأخيرة للفلسطينيين العُراة)، وغيرها من الأحداث في التاريخ، البعض وصلنا والكثير منها لم يصل. العديد من هذه الأحداث كان موضوعًا للفكر والأدب، تراوح بين العرض التاريخي والنقاش الفكري والاستثمار الأدبي كقناع لأحداثٍ جديدة.
في هذا السياق، أعادتني أحداث غزّة إلى بعض الكتب والنصوص في مكتبتي، من بينها قصيدة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش بعنوان "خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض". هذه القصيدة الواردة في ديوان "أحد عشر كوكبا"، مقاربة شعرية لحروب الإبادة ضد الهنود الحمر التي مارسها الغزاة المستعمرون لأميركا بعد اكتشافها، وهي قصيدة كشف فيها درويش عدوانية الغزاة وعنصريتهم وعنفهم الممارس على كلّ ما في الأرض، من البشر والعشب والشجر والطبيعة.
"يا سيّد الخيل علّم حصانك أن يعتذر
لروح الطبيعة عمّا صنعت بأشجارنا
آه يا أختي الشجرة
لقد عذبوك كما عذبوني
فلا تطلبي المغفرة
لحطّاب أمي وأمك".
كما عرّى قيم الغزاة الجدد ورؤيتهم المادية الباحثة عن الذهب والمال في مقابل روحانية الهنود التي تتجلّى في علاقة الانسجام والتواصل مع الطبيعة، لذلك فإنّ إرادة الإبادة لن تتحقّق، حتى ولو مات جميع الهنود لأنّ في الأرض والشجر والسماء والهواء امتدادًا لأرواح الهنود ولغتهم وتاريخهم. هنا يصبح حضور الضحية متأصّلًا ومتجذّرًا، وحضور القاتل طارئًا وعابرًا.
"هنالك موتى ينامون في غرف سوف تبنونها
هنالك موتى يزورون ماضيهم في المكان الذي تهدمون
هنالك موتى يمرون فوق الجسور التي سوف تبنونها
هنالك موتى يضيئون ليل الفراشات،
موتى يجيئون فجرا لكي يشربوا شايهم معكم هادئين".
فنحن إزاء مشروعين متناقضين: مشروع للموت ومشروع للحياة.
إنّ استحضار الهنود الحمر وحروب إبادتهم في هذا النص ليس إلّا قناعًا عن الفلسطينيين الذي يُواجهون المشروع الاجتثاثي نفسه على يد إسرائيل، حيث تبدو حرب غزّة (والتجربة الفلسطينية كلّها) نسخة من تجربة الإبادة التي عاشها الهنود. فمن ناحية الغازي، هناك أقواله وأفعاله ورؤاه ونزوعه العنصري والمادي، ومن جهة الضحية هناك، الأطفال والنساء والشيوخ، البسطاء الباحثون عن الحياة والوجود، ككلّ الناس، رغم صعوباتها في مساحة ضيّقة، وفي واقع حصار وإغلاق تام. وما مقاومتهم إلا ردّا على عنجهية وعنصرية كولومبوس الجديد الذي لا يرى إلا نفسه.
"لا يصدق أنّ البشر
سواسية كالهواء وكالماء خارج مملكة الخارطة
وأنهم يولدون كما تولد الناس في برشلونة
لكنهم يعبدون الإله الطبيعة في كلّ شيء... ولا يعبدون الذهب".
مثل هذه النصوص بقدر ما تشير إلى أحداث واقعية فإنّها تقدّم روايتها الخاصة بناء على سبر أغوار الحدث بكلّ مكوّناته، رواية المخفي والعميق في الحدث، العميق الذي يتجاوز الزمان والمكان ويحتفي بالإنسان روحًا وقيمًا خالدة. هنا أتساءل: هل يمكن أن نرى نصوصًا تجعل من حرب غزّة أيقونة للمستقبل على عدّة مستويات؟
الموضوع نفسه، أعادني إلى كتاب "أميركا والإبادات الجماعية، حق التضحية بالآخر"، للكاتب الفلسطيني منير العكش، الذي تتبع فيه سياسات بناء أميركا من المهاجرين الإنكليز وإبادتهم للهنود الحمر، على مدى قرون منذ اكتشاف أميركا، بالقوة والقانون وغيرها من الوسائل، كاشفًا الخلفيات الفكرية والعقدية لذلك.
في هذا السياق، يلخص منير العكش مضمون كتابه بقوله: "إنّ فكرة أميركا نفسها فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة هي التطبيق العملي للفهم الإنكليزي لفكرة إسرائيل التاريخية وأنّ كل تفصيل من تفاصيل الاستعمار الإنكليزي لشمال أميركا حاول أن يجد جذوره في أدبيات تلك الإسرائيل وتقمص وقائعها وأبطالها وأبعادها الدينية والاجتماعية والسياسية كانوا يسمون أنفسهم يهودا وعبرانيين ويطلقون على العالم الجديد اسم إسرائيل وأرض كنعان وكانوا يقتلون الهنود وهم على قناعة بأنّهم عبرانيون أعطاهم الله تفويضا بقتل الكنعانيين. إنّ يهودية هؤلاء المستعمرين الإنكليز هي التي أرست الثوابت الخمسة التي رافقت التاريخ الأميركي في كل محطاته: المعنى الإسرائيلي لأميركا، عقيده الاختيار الإلهي والتفوق العرقي والثقافي، الدور الخلاصي للعالم، قدرية التوسع اللانهائي، حق التضحية بالآخر".
خلاصة، تجعلنا نتساءل عن الأم والبنت، عن الأصل والفرع، وإن كان المشترك واحدا وهو ما يجعل السؤال "تفصيل ثانوي" (عنوان رواية للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي).