ترميز التافهين... اتركوهم في الحضيض

ترميز التافهين... اتركوهم في الحضيض

06 سبتمبر 2023
+ الخط -

أستغربُ أحيانًا عندما أرى بعض الأشخاص يحاولون جعل أحدهم قائدًا أو رمزًا، وهو في واقع الأمر لا يرقى إلى أن يكون "إنسانًا عاديًا حتى"، ولا يملك أيَّ مؤهّلاتٍ تجعلهُ في مستوى أعلى من "الإنسان العادي". 

يُستخدم الترميز عادةً عند العشائر، حيث تتم ترقية أحدهم كزعيم أو قائد لهذه العشيرة، وذلك ليس عن طريق التصويت أو ما شابه، إنّما الأمر يتم عندما يكون أحد أفراد العشيرة طاعنًا في السن، أو أكبرهم سنًا. وهنا، بطريقةٍ تلقائية يرتقي هذا الطاعن بالسن إلى أن يكون سيّدًا عليهم، يأمر وينهي، وله كلمته الفاصلة في النزاعات والخلافات. وقد يكون هناك معيار آخر لترميز الآخرين في العشيرة، وهو المال، فهذا له قوّته وهيبته عند أبناء العشيرة، حيث يترفّع الذي يملك مالًا تلقائيًا، وقد تصل ترقيته إلى أعلى من الذي يكبرهم سنًا. 

حقيقةً، هذه المعايير، السن والمال، أو غيرها كالنفوذ والجاه، ليستْ مناسبة لتطوير الجماعات والحضارات فيما بعد، ومفعولها هابط مقارنةً بمفعول المعايير التي تحتكم إلى العقل والفكر، بالتالي، هي تغذّي الجهل، وتحافظ على بقاء العقلية الجمعية كما هي، دون تطوير أو دعوة إلى التفكير، مستهلكة وغير منتجة، لا تحتمل إلّا أن تكون تابعة.  

إلى جانب هذا، ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات مرعبة في ترميز التافهين على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي. ويقصد بالتافهين هنا، أولئك الذين لا يملكون أدنى أدوات التفكير، وليست لديهم حتى القدرة على المعرفة أو الحديث بشكل لائق. ويتم ترميزهم، كقادة أو مؤثّرين، كونهم يمتلكون مالًا كثيرًا، أو شهرةً واسعة، أو نكتةً سخيفة، أو جسدًا رائعًا. 

انزياحٌ صارخٌ للبشرية نحو الحضيض، وهروبٌ من الواقع المأساوي الذي يقسو في أغلب الأحيان على العقل البشري الجيّد

هذا الترميز لا ينحصر في مساعدتهم في الوصول إلى أكبر عدد ممكن من البيوت والناس، إنّما يمتد إلى محاولة تقليدهم، واستضافتهم في برامج إعلامية، وجعل أقوالهم وكأنّها مرجع موثوق وأكيد، وجعلهم في محلّ الإنسان الناجي والناجح. 

هذا الخراب الذي ينتشر في البشريات عامةً، هو انزياحٌ صارخٌ للبشرية نحو الحضيض، وهروبٌ من الواقع المأساوي الذي يقسو في أغلب الأحيان على العقل البشري الجيّد. كما أنّ هذا الخراب استسهالٌ رهيب للنجاح، ومحاولة لخلق أسس جديدة يُبنى عليها الإنسان المعاصر. 

في نهاية الأمر، هذا الخراب العالمي ليس صنيع الدول، أو المؤامرات العالمية، إنّما هو صنيع الإنسان العادي نفسه، رغبةً منه في الظهور كإنسانٍ خارق، حيث إنه إنسان أصابه الضجر من كونه إنسانًا عاديًا، لا يملك أدنى مستويات التفكير، وكونه إنسانًا مهمَّشًا مقارنةً بالإنسان الذي يملك انتباه الآخرين نتيجة لذكائه أو اختراعه أو عقليته أو أدائه.

والمؤسسات والدول هنا، العربية والغربية، تستفيد من هذا الخراب بطريقةٍ أو بأخرى؛ فهو مصدر إلهاء رائع للبشرية، وحاجزٌ ضخمٌ أمام الإنسان وما يجب أن يكون؛ فمن مصلحة المؤسسات والدول أن تترك البشر وشأنهم بهذا الخراب، وألّا تحاول تصويب الأمر، إنّما تغذيه جيدًا؛ لتعمل ما تريد، وتمرّر سياساتها كما تريد، دون وجود رادع أو مراقب لها. 

الريماوي
محمد الريماوي
كاتب ومدوّن. خريج جامعة بير زيت. له اهتمامات في اللغة العربية والكتابة الإبداعية والشعر وكتابة الأبحاث والمقالات، ويقدّم محتوى مرئيًا ومسموعًا على منصات التواصل الاجتماعي.