العنف بين أوهام الذكورية وتمثلات النسوية (12)

ملف: العنف ضد المرأة بين أوهام الذكورية المتسلّطة وتمثلات النسوية الخاطئة (12)

11 مارس 2023
+ الخط -

لا تزال قضية العنف ضد المرأة تستأثر اهتماماً بالغاً وتشغل حيزاً كبيراً عند مختلف الجهات الحقوقية والسياسية والمدنية وتدافع بشدّة عن حقوقها الإنسانية، بينما تنحو بعضها منحى خاطئا مثل الحركة النسوية ذات المنزع المتشدّد، والذي يخلص إلى وجود صراع قائم بين الذكر والأنثى، وهو موضوع شغل أيضا الكثير من المهتمين في المجال الديني والنهضوي، حتى أضحت تبذل جهودا متعدّدة والتزامات مختلفة لمحاربة مظاهرها المستعصية.

وباعتباري من المؤمنات بالكرامة الوجودية للإنسان، فإني أجد نفسي مدعوة، بالضرورة، للإدلاء برأيي تجاه هذه المسائل، انطلاقاً من المرجعية المؤسّسة للفعل الاجتماعي الحضاري ذات الرؤية التواصلية بين كافة الأفكار والرؤى والتصوّرات القائمة مهما كانت اختلافاتها. وسأنطلق بذلك من مبدأ أساسي، وهو رفض العنف ضد المرأة بشكل مطلق، باعتباره انتهاكا مروّعا لأحد أهم حقوقها، وهو كرامتها وآدميتها وإنسانيتها، بل هو عمل إجرامي ينبغي الاتحاد لمكافحته من أجل القضاء عليه والحدّ من تبعاته.

وبالنظر للطرق والأساليب والأدوات التي ينبغي امتلاكها لمحاربة هذا السلوك الإجرامي الذي يفتك بالأسر ويخرّب البيوت، يمكننا أن نطرح هذه الإشكالات التي تنبثق من الواقع المعاش؛ فهل يمكن محاربة هذه السلوكيات من خلال الاكتفاء بالشعارات واليافطات؟ حتى أضحى سماع هذه المصطلحات التي يتم ترويجها بالإعلام التقليدي والجديد، من قبيل السلطة الذكورية والثقافة الأبوية والعقلية الذكورية، صراعاً جديداً ضد الرجل، سواء كان أبا أو زوجا أو أخا؟ وهل يمكن اعتبار هذا الصراع حلاً حقيقياً لقضية العنف ضد المرأة في مقابل حصد خراب الأسر الذي لا يقلّ ألماً عن القضية الأولى؟

كيف تُطَبِّعُ المرأة مع العنف؟!

قبل التطرّق إلى ظاهرة العنف ضد المرأة وجبت الإشارة إلى بعض التجليات الخطيرة، والتي تعرفها مجتمعاتنا، وهو عنف المرأة ضد جنسها المرأة، وقد لوحظت مظاهره منتشرة في مختلف الأماكن الإدارية والمؤسساتية؛ فكثرة الحوادث التي تتجلّى فيها مظاهر العنف النسوي التي تقوم فيها المرأة بممارسة أشكال متعدّدة من الضرب والسحل على زميلتها في العمل، يفضي بمجتمعاتنا العربية إلى بروز ظاهرة أخرى لا تقلّ خطورة عن غيرها، وهي عدم احتمال المرأة للمرأة، سواء في العمل أو في تفوّقها عليها في الذكاء والجمال والنباهة واللباقة، فضلاً عن ترؤسها عليها، ما ينتج عنه تفضيل جنس الرجل على المرأة في كافة مظاهر الحياة الاجتماعية كتفضيل العلاج عند الطبيب الرجل على المرأة، وخياطة الملابس عند الخياط والمصمّم الرجل... على الرغم من أنه قد تتفوّق المرأة على الرجل في تقديم تلك الخدمات، وهذا ما يؤدي إلى عنف المرأة لجنس المرأة، وهو الأمر الذي يستوجب التأمل والتفكير العميق من هذا التناقض والازدواجية.

أليست المرأة التي تخرج بخطابات ضد الذكورة هي نفسها التي تصنع العقلية الذكورية وترسخها في المجتمع؟ 

كما تمتد مظاهر العنف ضد المرأة لتشمل بيتها الأسري، ويبرز ذلك مع أطفالها من خلال تجسّد أشكال العنف في سلوكهم، بسبب أثر التربية التي تلقوها من قبل، وعندما يمتد بهم العمر، يسري عليهم نفس ما سرى على والديهم، وهذه نتيجة طبيعية للضغوطات النفسية التي تمرّ بها الزوجة؛ فلا تستطيع التحكّم بها وعزلها داخل إطار معين، وبالتالي تظهر عادات أخرى جديدة تنخر المجتمع من داخله، وتجعل ظاهرة العنف مستمرة في عروقه مثل تزويج البنات ممن لا أخلاق لهم، فيتم ممارسة العنف عليهن بالدور الذي مُورس على أمهاتهن، وذلك كلّه نتيجة البدايات الخاطئة في عملية اختيار الزوج لتصبح ظاهرة التطبيع مع العنف أمرا عاديا.

الواقع الذي يكشف حال المرأة الغربية

وليس حال المرأة العربية أفضل من حال نظيرتها الغربية التي غالبا ما تتجه لها أنظار التيار النسوي باعتبارها النموذج المحتذى، باعتبارها تمكنت من الحصول على كلّ الحقوق، وأنها القدوة والمثال، بخلاف المجتمعات الشرقية التي تنخرها مظاهر العنف المتعدّدة. إلا أنّ الإحصائيات والأرقام تشير إلى خلاف ذلك؛ فقد أصبح العنف ضد المرأة الأميركية ظاهرة مستعصية على الزوال بسبب ما تتعرّض له من العنف في كلّ لحظة وآن، بل وصل الأمر إلى حدّ مساواتها بضحايا حرب فيتنام بسبب فشو القتل داخل الأسرة الأميركية على الرغم من كلّ المجهودات الحكومية التي تُبذل في سبيل الحدّ منها والإنفاق عليها، وليست المرأة الأوربية بأفضل منها حالا، وهي نتيجة طبيعية للتطرّف في الدعوة إلى المساواة المطلقة التي تمّ النداء بها، فقد صرّحت رئيسة الجمعية النسائية الفرنسية بكون المطالبة بالمساواة الكاملة بين المرأة والرجل تصل بهما إلى مرحلة الضياع، حيث لا يحصل أحد من الطرفين على حقوقه، ويمكن لأي أحد الرجوع إلى الكم الهائل من الدراسات والأبحاث والإحصائيات التي صدرت مؤخرا عن هذه الظاهرة في البلدان الغربية، والتي يكفي النقر على المواقع الرسمية للاطلاع عليها، فبالتالي لا تقتصر مظاهر العنف على منطقة دون أخرى؛ فهو متواجد في كلّ مناطق العالم، ومنذ قدم الزمن وبصور مختلفة، وليس عند الشرق فقط؛ فما قامت به الحركة النسوية في الغرب من الصراع مع الرجل لم تحقّق المساواة المنشودة من طرف الحركة النسوية عبر تقليبها للآية، فأضحت المرأة أقوى والرجل أفضى به الأمر إلى الانزواء وانتهى إلى الضعف والهوان، وانعكس ذلك على المرأة الغربية، من خلال حرمانه من الأطفال وخسارة حضانتهم بسبب دعوات كاذبة، مع افتقاده لبعض الخصائص الرجولية نتيجة احتكار المرأة في بعض الأحيان لكلّ القرارات.

للمؤسسة الدينية دورها الهام في ضرورة مراجعة خطابها الديني، وكذلك للأسرة نصيبها الوافر في ضرورة إيجاد تربية صحيحة مبنية على الأسس السليمة في التنشئة والرعاية للأبناء

ونتيجة لذلك فقد أدى هذا التحوّل إلى بروز حركات مضادة للنسوية مثل حركة ماكتاو MGTOW الداعمة للرجل، والتي تدعو إلى الإنصاف مما نُزع منه، بسبب افتقاد الرجل الغربي لبعض خصائصه لتبرز مظاهر السلبية والاستسلام والتكاسل والتخلي عن المسؤوليات التي أدّت إلى تخريب النظرة بين الجنسين لم تخمد نيرانها حتى الآن.

التصور القرآني لظاهرة العنف ضد المرأة

وبالنظر إلى الرؤية القرآنية، فإنّ آياته المعبّرة عن مقاصد البناء والاستقرار بين جنس الذكر والأنثى في التوزيع العادل للوظائف المناسبة لكلّ منهما؛ فميّز الرجل بالقوة والطاقة، وميّز المرأة بالحنان والعاطفة، وذلك قصد إرساء التكامل بينهما؛ وهو مما تزخر به الآيات الناطقة مثل قوله: ﴿المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾، وهذه الولاية لن تتم سوى بالمنطق القرآني نفسه الذي تحدّده طبيعة العلاقة بين الذكر والأنثى والتي يجليها قول الله تعالى: ﴿هن لباس لكم وأنتم لباس لهن﴾، ولن تتم خاصية اللباس سوى برد ما ينافيها من أشكال العنف والظلم الذي يجرّد المرأة والرجل من معنى اللباس، بخلاف ما تعوّدت عليه مجتمعاتنا المسلمة من التطبيع مع مظاهر العنف المادي، أما الآية التي وردت في سورة النساء: ﴿فاضربوهن﴾؛ فالمنطق القرآني يقتضي الرجوع إلى البيان النبوي باعتباره المفسّر للقرآن الكريم والممثل الأسمى لمعانيه؛ فانطلاقا من قول السيدة عائشة رضي الله عنها من تجسيدها للمسار الأخلاقي للنبي صلى الله عليه وسلم بكونه كان قرآنا يمشي على الأرض، فإنه عند التأمل في مسارات هديه التي لم تمتد يداه لنسائه قط، بل لم يضرب أحدا قط، رجلا كان أو امرأة ولم ينقل عنه ذلك أبدا، وحتى عندما أذنبت معه جارية أرسلها في حاجة ولم تعد فوجدها تلعب في الطريق، قال لها مازحا: "والله لولا مخافتي القصاص لأوجعتك بهذا السواك"، إلا أنّ سوء الفهم لهذه الآية الكريمة، وعدم حملها على سياقها أدى إلى مشاكل كثيرة في العقل الإسلامي.

هل من سبيل للحد من ظاهرة العنف؟

وقبل الختام، فإننا نستشكل من تنامي هذه الظاهرة، خاصة مع المشاهد العنيفة ضد المرأة التي ينقلها الإعلام؛ فهل هو الذي يعلّم المجتمع العنف ضدها كما هو معروض في الدراما العربية أم أنّ الإعلام العربي هو انعكاس للأفكار والانحرافات والتراث الموروث اجتماعيا؟ ثم أليست المرأة التي تخرج بخطابات ضد الذكورة هي نفسها التي تصنع العقلية الذكورية وترسخها في المجتمع؟ 

وبالتالي فإننا نعتبر بعض الموجهات اللازمة، والتي بقدر ما تحاول الحدّ من هذه الظاهرة، فإنها تترك الباب مفتوحا للابتكار للحلول وهي: 

أولا: النظر بواقعية وعقلانية في الأسباب والأساليب التي تؤدي للعنف ضد المرأة، سواء المادية والاجتماعية والسياسية، وضرورة تضافر الجهود للحدّ منها من مختلف المؤسسات، وهي المسؤولة على نشر الوعي بخطورة الأمر، وكذلك فإنّ للمؤسسة الدينية دورها الهام في ضرورة مراجعة خطابها الديني، وكذلك للأسرة نصيبها الوافر في ضرورة إيجاد تربية صحيحة مبنية على الأسس السليمة في التنشئة والرعاية للأبناء.

ثانيا: إعادة النظر في أساليب التربية التقليدية التي يقوم بها الآباء والأمهات داخل الأسرة، قصد إرساء مجتمع سليم منفتح على التحوّلات والتغيرات الحاصلة.

ثالثا: تكوين الشباب بالوعي الكافي لمزاحمة ومدافعة نظام التفاهة المضلّل الذي يقودهم إلى مراتع الجهل المقنّع بالعلم، والمال، والشهرة، والسلطة، فأصبحت مواقع السوشل ميديا ترتفع ببعدها المادي على القيم الإنسانية البناءة، في سبيل بناء عالم جديد هو المال والشهرة والسلطة، فهذه هي الأيديولوجيات الجديدة التي أصبحت تقود الشباب.

وفي الختام أقول: ينبغي أن تعرف المرأة قيمتها وتحقّق ذاتها وتبني نفسها وتتسلّح بالعلم والمعرفة وتتملك شخصيتها وتحترم نفسها، وتؤدي رسالتها لتصبح فاعلة في الخير وصاحبة أخلاق ومبادئ وقيم، وعندها سيحترمها الكل، ولن يتجرأ أحد أن يرفع يده وصوته عليها، وتؤسّس بذلك مدخلاً عظيماً ولبنة أساسية في البناء الحضاري.

ريهام أزضوض
ريهام أزضوض
طالبة وباحثة في جامعة أسكودار في اسطنبول بتركيا، تحمل إجازة في القانون من جامعة محمد الأول في المغرب. تعرّف نفسها، بالقول: "اصبر ثم اصبر حتى يتغنى الصبر بك".