السلوك اليومي والانتماء الفكري

السلوك اليومي والانتماء الفكري

20 مارس 2024
+ الخط -

أتعرّض بين الحين والآخر لحذف منشور هنا أو محتوى هناك تحت لافتة الانتهاك لمعايير المجتمع، ولا سيما إن كان الموضوع متعلّقًا بقضايا أمتنا المختلفة، وفي مقدّمتها قضية فلسطين، وفي ذلك ما يثير الانتباه إلى مسألة مهمة، حيث ينساق البعض وراء أكذوبة تحرّر المجتمعات من الانتماء، وحيادية الرسالة، واستقلالية الفعل والسلوك، فيما يقلّل آخر من تأثير الفكر في بناء ونهضة الأمم، وهو يفعل ذلك، ربّما بتأثير حضارة المادة الصمّاء التي باتت تشكّل حتى عقولنا، وكلا الأمرين وهمٌ بالغ أو فهم خاطئ.

فالمتأمّل للمجتمعات المختلفة يجد أنّ المنظومات والمرجعيات الفكرية هي التي توجهها، سلوكاً وأفعالاً، قد تظهر بشكل فردي أو عفوي وغير مخطّط له، في حين أنّ المواقف التي نجدها ليست إلا انعكاساً لما يؤمن به أصحابها من فكر وقيم، وذلك يعبّر عن تخطيطٍ مدروس ومخزون داخل تلك العقول.

وهذا الأمر ينطبق على الجميع أيّاً كانت العناوين التي ينحازون إليها، مع أنّ الانحياز هو ذاته بات تبريراً لمواقف عدّة، متناسين أن ليس كلّ انحياز مرفوضاً، فالانتصار للحق يظلّ القيمة العليا من ارتقاء الفكر وأصالة الفعل، ولا يعدّ انحيازاً بالشكل السلبي المراد من استغلال هذه الكلمة. فلو نظرنا مثلاً إلى ميدانين مختلفين في الظاهر، هما الموقف الدولي من قضايا الأمة المسلمة ونتاج السينما الغربية، لوجدنا أنّ كلا الأمرين يعبّران عن  انعكاس واضح للمنظومة الأخلاقية والقيمية التي تأسّست عليها الحضارة الغربية ويؤمن بها معظم المنتمين إليها، ويصل إلى مستوى الكلمات المستخدمة.

الانتصار للحق يظلّ القيمة العليا من ارتقاء الفكر وأصالة الفعل

وبعيداً عن شعارات الحيادية والمصداقية والإنسانية والرفق بالحيوان التي تمتلئ بها شاشات الحياة الغربية الواقعية والافتراضية، فإنّ السلوك تجاه مفردة الإسلام فكراً من جهة، والموقف من قضايا أهله سلوكاً، يظهران مدى الزيف الذي قامت عليه، والذي يجعل الملايين لا تأبه لوطنٍ يُسرق وشعبٍ يُباد، بل وتُسخّر كلّ الإمكانات الاقتصادية والأرباح المادية لدعم القاتل. لا، والأدهى من ذلك، تُمارس سياسة تكميم الأفواه في المواقع والشبكات التي ترفع الشعارات البراقة بذريعة انتهاك إرشادات المجتمع، وللحفاظ عليه آمناً ومحترماً كما ذكرنا في افتتاح هذا المقال.

والذي نريد قوله هنا أنّ ليس في ذلك ازدواج مها بدا هذا هو الظاهر أبداً، بل هو تعبير عن انتماء فكري لازم، وصورة ذهنية مترسّخة في العقول، وإرث مظلم من محاولات محو وإبادة الآخر، والذي كما يبدو لا تنطبق عليه قوانين الديمقراطية!

إنّ تعزيز فكر الأمة والتزامها بهُويتها الأصيلة هو أساس النهوض الأوّل وركنه المتين، والعمل الجاد والفاعل لتوسيع نطاق شعاع الحق الذي تحمله ولا يمكن النكوص عنه، ويضمن ذلك المساهمة في كشف حقيقة ما يجري دوماً وبثّ الوعي في عقول الآخرين، فبدون ذلك لا يمكن البقاء مكتوفي الأيدي أمام برود الشعور والإبادة المعنوية التي تُمارس بحق أمتنا دون انتهاء!

وحين نتمكن من النجاح في إخراج الآخرين من أسر تلك الأفكار وجذبهم إلى محطة الانتماء والانتصار الإنساني نكون قد ساهمنا في إحداث الحوار الحضاري المتوّهج، كما فعل أجدادنا حين فكّكوا تلك المنظومات وصهروها في بوتقة الرسالة الإسلامية السمحاء.

سيبقى الحق وستظل الفطرة أصل الحضارة لا المدنية الزائفة التي تُصدّر لنا في كلّ حين، هذا هو الدرس العميق الذي يجب أن يكون هو الشعار، وإن كنت أخشى أن يفسّر هذا الكلام هو الآخر على أنّه بعث للكراهية وإثارة للأحقاد.