الداخل الغزاوي بين جبهتين

الداخل الغزاوي بين جبهتين

08 مارس 2024
+ الخط -

الخبر الذي شاهدته على قناة محلية كان الإضافة الوحيدة تقريباً على ما تبثّه الشاشات في موضوع حرب الإبادة الإسرائيلية/ الأميركية على غزّة. كان الخبر المصوّر عن جبهة الداخل. في المشاهد، شبان مقنّعون ومسلحون بالعصي يجولون على ما بدا أنّه سوق بسطات مرتجل بين ركام الأبنية في مكان ما من رفح. وفي حين ساد الهرج والمرج لدى مرورهم، يصيح أحد المقنّعين أمام الكاميرا أنّهم "لجنة الحماية الشعبية"، وأنّهم هنا لمنع الاحتكار وإجبار التجار على بيع المتوّفر من السلع بأسعار حدّدتها وزارة التموين الفلسطينية، بدلًا من الأسعار الخيالية التي يبيعون بها لمن ما زال يمتلك بعض المال. حسناً لا أعرف لم كانت المجموعة مقنّعة، لذا سألت أحد الزملاء العاملين في القطاع، فأجابني أنّه في ظلّ تقصّد إسرائيل الأجهزة الأمنية بالقصف والتصفية، فإنّ الأقنعة هي لحمايتهم من انتقام لاحق. 

المهم، في الفيديو بدا المقنّع غاضباً وهو يؤكد أنّهم لن يسمحوا بالفوضى، وسوف يلاحقون لصوص الأنقاض والبيوت المتروكة، إضافة لتجار الحروب منعاً لاستغلال الفلسطينيين في غزة، الجائعين لدرجة موت بعضهم، إمّا من سوء التغذية، كما حصل للفتى يزن بدارنة منذ أيام، أو كالمراهقة مرح طلال اليازجي التي قتلت أمس الأوّل جوعاً، وهما اثنان فقط من ثمانية عشر شهيداً للجوع حتى الآن في القطاع المنكوب. 

كان ذلك بعد مجزرة الطحين الأولى في شارع الرشيد التي قالت إسرائيل في محاولة لتضليل الرأي العام العالمي المتابع ليوميات الإبادة إنّها حصلت بسبب دوس المتدافعين على بعضهم، وليس بسبب إطلاقها النار على رؤوس هؤلاء الذين كانوا، وبرغم وعيهم للخطر، يرمون بأنفسهم أمام قناصة العدو، ويخوضون في مياه البحر حيث ألقيت بعض المساعدات، لصيد ما قد يسدّ جوع أولادهم مهما كان الثمن، حرفياً، أي حياتهم. 

في ظلّ تقصّد إسرائيل الأجهزة الأمنية بالقصف والتصفية، فإنّ الأقنعة هي لحمايتهم من انتقام لاحق

تذكرت وأنا أتابع هذا الوضع المهين، مشهداً حصل معي يوم زرت القطاع بعيد الثورة المصرية. ولأكن أدق، ذكرتني به صديقة قالت إنّ أكثر ما أثّر فيها، حين قرأت مقالاتي عن غزّة يومها، فقرة كانت تتحدّث عن أطفال غزيين ساعدوني في إرشادي لبعض العناوين، وأردت أن أكافئهم، إلّا أنّي فوجئت بردّة فعلهم، حين قفز أحدهم مذعوراً إلى الخلف لما مددت يدي بتلك النقود، وهو يشير بيديه علامة الرفض مردّداً: لا لا.. لم أساعدك لأجل هذا!

تذكرت الفتى. كان ربّما في العاشرة من عمره. وكنّا في أواخر شباط/ فبراير عام 2012. وكما هذه الأيام، كان البرد شديداً، خاصة أنّ الثلج في ذلك الحين، كان قد هطل لثلاثةِ أيام متوالية على القطاع للمرّة الأولى منذ خمسين عاماً. 

وبرغم البرد القارس، لم يكن الفتى ينتعل حذاءً، بل مجرّد شحاطة بلاستيكية، ارتدى فوقها كيساً من النيلون عقده عند الكاحل، وبدت منه أصابع قدميه مزرقة من البرد والخوض في برك المياه المتجمّعة في السوق المزدحمة، مختلطة بنفايات الخضراوات ومياه السمك المجلد الذائبة. سمكٌ هُرُب بالأنفاق من مصر، لأنّ غزة الرابضة على البحر لم يكن الاحتلال يسمح لها بالصيد أبعد من ثلاثة أميال، لذا كان السمك المحلي قليلاً ومرتفع الثمن.

فوجئت بحركة الفتى. خصوصاً أنّي كنت قادمة من بلاد "كل سنة وأنت طيب"، أي الاسم الآخر لطلب البقشيش في القاهرة، قبل أن يشرح زميلي أنّ "البقشيش هنا عيب". 

لم يكن الفتى وحيداً. كانوا مجموعة لاحقتنا، فقد كنّا بالنسبة لهم نوعاً من الترفيه غير المتوّقع. دعوته للجلوس بجانبي وسألته: لم لم يقبل النقود؟ فكرّر قوله إنّ كلّ ما فعله هو لمساعدتي. شرحت له أنّه حين أرشدني ورافقني لأكثر من نصف ساعة، فلقد سهل عملي كصحافية. وبما أنّه لكلّ عمل أجر، فإن هذا المبلغ هو أجره الحلال، وعليه، إن ظن أنّه قليل، فيجب أن يطلب المزيد. إمّا إن كان أجراً عادلاً، فعليه أخذه ببساطة. فهذا حقه.

نظر الفتى إليّ بعينين نبيهتين. فكر قليلاً، ثم قال: إذا هيك ماشي. تهلّل وجهه وهو يأخذ أجره، ثم ركض مدبراً وجوقة الفتيان تلاحقه، وقد ارتفعت أصواتهم مرحاً.

قلوب غالبية المصريين تحترق قهرًا من الحؤول بينهم وبين ممارسة أخوّتهم تجاه أهل غزّة، ولو بشكل بسيط

كانت المقارنة لا يمكن تفاديها وأنا أشاهد تلك المساعدات، السخيفة والمهينة التي كانت ترميها من علٍ، تارة فوق البحر، وتارة فوق الأنقاض، طائرات عسكرية تابعة لجهات.. ما هي صفتها؟ لا أجد وصفاً. 

متعاطفون؟ كان يمكن أن يكونوا كذلك لو كان هذا الإجراء قدرتهم الوحيدة، لكن الجيوش التي تأخذ إذن الوحش قبل أن ترمي تلك المساعدات "الإعلانية"، ولا تقوم بما وجدت من أجله، هو إذلال لها قبل أن يكون لجموع الجائعين.

أمّا ولي أمر معبر رفح؟ فماذا يقال فيه؟ 

منذ يومين أرسل لي أحدهم وثيقة تمّ تداولها على مواقع السوشال ميديا. الوثيقة صادرة عن "القنصلية المصرية الملكية العامة بمدينة القدس، فلسطين وشرق الأردن"، ومؤرخة في 30 أبريل/نيسان 1944، وموّجهة إلى "حضرة المحترم رئيس بلدية خانيونس". 

يقول نص البرقية: "بعد التحية، تسلمت مع الشكر مبلغ 350 جنيهاً فلسطينياً قيمة ما قمتم وحضرات إخوانكم بجمعه لفقراء قنا وأسوان (في مصر). وإني إذ أشكر حضراتكم وأهالي خان يونس الكرام الذين دفعتهم أريحيتهم إلى التبرع به لفريق من إخوانهم، أنتهز هذه الفرصة كي أقدم سلامي واحترامي. مرفق الإيصال الخاص بالمبلغ المتقدم ذكره. التوقيع: القنصل العام محمد فوزي".

لا شك عندي أنّ فقراء قنا وأسوان سيتوقون لردّ الجميل اليوم لأهالي خانيونس المحاصرين الجائعين المستهدفين بكرامتهم، إضافة الى حياتهم. بل أجزم أنّ قلوب غالبية المصريين، مثلنا، تحترق قهرًا من الحؤول بينهم وبين ممارسة أخوّتهم، ولو بشكل بسيط كما فعل ذلك الفتى السينائي الذي أدخل 1500 كعكة من ثقب أحدثه في جدار الفصل عند معبر رفح، بداية حرب التجويع. 

لكنهم مثلنا. من أين تريدهم أن يدخلوا غزّة؟ والبعبع لا يربض عند المعبر فقط مهدّداً من قد يقترب، من الجهتين، بالتهامه حيّاً، بل فوق صدورهم جميعاً، ضاحكاً ضحكته البلهاء وهو يؤكد بوجهه البلاستيكي أنّ المعبر مفتوح بشكل عادي؟