الإدمان على العمل: فقدان الاتزان في الحياة

الإدمان على العمل: فقدان الاتزان في الحياة

06 مارس 2024
+ الخط -

عندما يتردّد صدى كلمة "الإدمان" في أذهاننا، تتبادر إلينا، عادةً، صور مروّعة للمخدرات والتدخين والكحول، تلك العادات الضارة التي تشوب حياة الكثيرين. ومع ذلك، هناك إدمانٌ آخر لا يأخذ حيّزًا كبيرًا في مدارك الناس، إنّه إدمان العمل. هذا الإدمان الذي يجعل الفرد يترنّح بين زمن العمل وزمن الراحة، يقطع الساعات بين لحظات الجد والمراوغة، حتى يختلط النهار بالليل في متاهةٍ من التزام العمل.

قد يبدو غريبًا أن يكون الإنسان مدمنًا على العمل، فكثيرون يرون في العمل مجرّد وسيلة لتأمين العيش والراحة. ولكن هناك فئة تتجاوز هذه الحدود ليصبح العمل مهمّةً تفرض نفسها كأحد أسباب الوجود. يجد هؤلاء أنفسهم متشبّثين بمهامهم ومسؤولياتهم، متنقلين بين أروقة المكاتب، كما لو أنّهم أسرى في سجنٍ من الواجبات المستمرة.

يعتقد الكثيرون منّا أنّ قيمتنا مرتبطة بشكل جوهري بمهننا. نسعى وراء حياة مهنية تعد بالمكانة والثروة والاعتراف، مُعتقدين أنّها تمثل المفتاح للمعنى. ومع ذلك، في سعينا اللاهوتي نحو النجاح، نتجاهل غالبًا السؤال الأساسي: ما هو الهدف الحقيقي للعمل؟

في الواقع، تعتبر الوظائف مصدر دخل لدعم معاشنا وشغفنا واهتماماتنا. ومع ذلك، في هوس مجتمعنا بالإنتاجية والإنجاز، رفعنا العمل إلى مكانة لم يكن من المفترض أن يحتلها. نقيس قيمتنا بالألقاب المذكورة على بطاقات الأعمال، وحجم رواتبنا، وسمعة أعمالنا. ولكن في القيام بذلك، نفقد رؤيتنا لقيمتنا الجوهرية كبشر. أصبح الناس، في زمننا هذا، مُدمنين على العمل بشكلٍ لافت، فقد تغيّرت نظرتنا إليه تمامًا. لم يعد العمل مجرّد مصدر للدخل، بل أصبح مصدرًا يمنحنا المتعة والرضا الذي كنّا نسعى إليه من خلال الأمور الحقيقية والقيم الأساسية في حياتنا؛ الدين، والعائلة، والطبيعة، والهوايات، والأحبّاء. هذا التحوّل الجذري في النظرة إلى العمل، أدى إلى تحوّلات في نمط الحياة والقيم والأولويات، فأصبح الفرد مرهونًا بوظيفته. 

في سعينا اللاهوتي نحو النجاح، نتجاهل غالباً السؤال الأساسي: ما هو الهدف الحقيقي للعمل؟

بالإضافة إلى ذلك، إنّ ارتباطنا وهوسنا بالعمل جعلنا نفقد القدرة على التمتّع بالوقت الفارغ. تصبح العطلات والإجازات فرصًا للقلق والتوّتر بدلاً من الراحة والتجديد. نجد أنفسنا نكافح للانفصال عن مطالب العمل المتواصلة، خوفا من أيّة لحظة من الخمول قد تكون فرصة مضيّعة للإنتاجية. ونتيجة لذلك، نجد أنفسنا مُحاصرين في دائرة لا تنتهي من العمل المفرط والاحتراق، غير قادرين على الهروب من قبضة التزاماتنا المهنية. 

عندما أتناول موضوع إدمان العمل، تأتي إلى ذهني شخصية "دوغ ستامبر" في مسلسل "بيت البطاقات/ House of Cards"، والذي كان مدمن عمل (Workholic)، وهو مصطلح يُستخدم لوصف الموظفين الذين يكرّسون أنفسهم لعملهم بشكل يمكن أن يصل إلى التضحية بكلّ شيء، متناسين أنفسهم وأسرهم. وما يثير الاهتمام أكثر هو لحظة فصله من العمل، حيث عادة يتوسل راكعًا على ركبتيه لاستعادة وظيفته، أشبه بكلب مخلص. ومن هنا جاء اللقب الذي أُطلق على الشخصية "دوغ".

علينا إعادة التفكير في علاقتنا مع العمل، ولنجعله جزءاً من حياتنا بدلاً من أن يسيطر عليها بالكامل

عندما تتأمل وتتابع تطوّر شخصيته، تستوعب أنّ دوافعه لم تكن الحاجة المالية أو التطوير الشخصي أو المساهمة في المجتمع أو غيرها من الدوافع المتعارف عليها، بل تجاوزت حدود ذلك. فقد اعتبر الاعتراف والتقدير من رئيسه علامة على نجاحه وتفوقه، وبالتالي اعتبر الطاعة ضرورية لتعزيز ثقته بنفسه ورضاه الشخصي. شخصيته تذكرني بأشخاص أعرفهم، أشخاص يعملون بشكلٍ جنوني فقط لإرضاء الناس من حولهم، حتى وإن كان ذلك يكلفهم حياتهم، ويجعلهم في حالة من البؤس. في الواقع، يذكرني بمعظم الناس في العالم.

إنّ إعادة التوازن في حياتنا واستعادة الاهتمام بالأشياء الحقيقية التي تغذّي أرواحنا هي خطوة أساسية نحو السلام الداخلي. علينا إعادة التفكير في علاقتنا مع العمل، ولنجعله جزءاً من حياتنا بدلاً من أن يسيطر عليها بالكامل. وعلى لسان الفنان محمد صبحي "القاعدة الأساسية عندنا تشتغل كتير تغلط كتير تترفد. تشتغل نص نص تغلط نص نص تتجازى. ماتشتغلش خالص ماتغلطش خالص تترقى"!

دلالات