احتجاجات السويداء... بين العمامة ومواقف الكرامة
ما إن تُذكر كلمة الكرامة بحضور أبناء بني معروف، حتى تدب النخوة والحماس في عروقهم، مكرّرين قسم الأجداد بواجب المحافظة عليها. كيف لا؟ وهي بالنسبة إليهم حماية العرض في المقام الأول، والذي يُحافظون عليه كحفاظهم على دمائهم، وفقاً لما أورده المؤرخ اللبناني حنّا أبو راشد في كتابه "جبل الدروز".
يَسأل أبو راشد أحد وجهاء الجبل آنذاك، متعب الأطرش، عن الدروز، فيجيب: "نحن لدينا ثلاثة مثلثات، ثلث نحافظ عليه وهو العرض والقومية والعادات، وثلث نُجبر عليه وهو الدفاع عن هتك العرض والحرب على من يخرق حدود استقلالنا ومن يمسّ كرامتنا ومعتقداتنا، وثلث نختاره صيانة الضيف وخدمته، ومواساة من يلتجئ إلينا".
الكرامة صفة بارزة لدى الموحدين الدروز، يشترك بها الجميع على حدّ سواء، ما يشكّل النظام الأخلاقي الذي يندر أن نجد مثيلاً له بمثل هذه القوة، والذي ضمن استمرار تماسك هذه الطائفة لمدة تزيد عن عشرة قرون متوالية، كما يقول الدكتور، عمر فروخ، في كتابه "عبقرية العرب بالنظام الأخلاقي الرفيع المرتكز على مذهب التوحيد".
لا شيء لدى الدروز أقدس من الكرامة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالمرأة، فعندما كان الأجداد يتعرّضون لتهديد ما، منذ أن دقوا أطناب أول خيمة لهم في الجبل، على هضبة الدبة بالقرب من قرية بريكة عام 1691، كانوا أوّل ما يتساءلون لمن سيتركون نساءهم؟ لذلك يحترمون المرأة، حتى لو كانت من نساء الأعداء.
ليس كلّ من لبس العمامة بات رجلاً تقيًا وصالحاً، إنّما كانت وما زالت تُخفي عند بعضهم الكثير من المساوئ والعيوب، فلقد لبسها الحجاج بن يوسف الثقفي، فكان يسفك الدماء لأدنى شبهة، ولبسها السلاطين العثمانيون فقتلوا من أشقائهم وبطونهم أكثر مما قتلوا من الأعداء، وقد لبسها وعاظ السلاطين فكانوا أشدّ بأسا على شعوبهم من السلاطين أنفسهم، تماماً مثلما يحصل على ساحة السويداء اليوم.
الكرامة صفة بارزة لدى الموحدين الدروز، يشترك بها الجميع على حدّ سواء
حينما سُئل سلطان الأطرش عن الشخص الذي سيُعهد إليه بعباءته ردّ قائلاً: "كل واحد بفصّل عبايتو على قياسو"، في إشارة واضحة لا تقبل اللبس لرفضه مبدأ التوريث، الذي قد يجلب للشخص المنصب وعباءته، لكنه قد لا يستطيع أن يجعله بصفات من سبقوه.
كلٌ يُحيك عباءته بيده، من أبو علي مصطفى الذي قاد معركة الجبل بمواجهة دحام، إلى الشيخ أبو علي قسّام الحناوي الذي سدّ فوهة المدفع العثماني بعمامته، إلى مؤسّس المرجعية الروحية في الجبل الشيخ، إبراهيم الهجري، الذي تميّز بنبوغه وتقواه، وأصبحت معه "قنوات" منذ عام 1803 المركز الديني للطائفة، إلى سلطان الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى، وبقية زعماء الجبل الآخرين الذين ناضلوا وكافحوا من أجل عزّة الأوطان.
عندما وصل الأمير فيصل إلى دمشق عام 1918، منح سلطان الأطرش لقب باشا، فقبله، لأنّه كان في طليعة الثوار الذين دخلوا دمشق ورفع العلم العربي فوق مبنى البلدية. اللقب نفسه كان قد رفضه من قبل، عندما قام الأتراك المستعمرون بمنحه له، في حين تمّ استيراد كثير من العباءات من خارج الحدود، بدءاً من المستعمر العثماني إلى الفرنسي، إلى الوافد الإيراني الجديد.
لذلك ذهبت عباءاتهم وستذهب بذهابهم، في حين بقيت عباءة من حاكها بيديه مع أبناء الوطن. وفي مذكرات، صياح الأطرش، التي نشرها ابنه عبدي تحت عنوان "أوراق من ذاكرة التاريخ"، يذكر أنهم في أيار 1927 كانوا في قرية الشبكي فحامت فوقهم طائرات إنكليزية، وأمعنت بقصفهم فقتلت فرس سلطان الأطرش ومزّقت الشظايا عباءته، وأنّ تلك العباءة موجودة اليوم في إطار زجاجي بالمتحف الوطني بالقدس.
لقد نظر الدروز لمقام المشيخة نظرة احترام وتكريم، باعتبارهم الرؤساء الروحيين والقضاة، الذين يتمتعون بصدق اللسان وحفظ الإخوان والبراءة من الأبالسة والطغيان، كأهم الدعائم التوحيدية في العقيدة الدرزية.
التاريخ يعيد نفسه، في رابع يوم من أحداث عام 2000، وبينما كنّا عددا كبيرا من المحامين في قاعة مبنى المحافظة بانتظار قدوم وزير الداخلية، للمطالبة بوقف القتل ومحاكمة المتسبّب بتلك الفتنة، وإذ برجلي شرطة يدخلان فجأةً مستنجدين للمساهمة في وقف الزحف الجماهيري الهائج، القادم من شهبا وقراها إلى مدينة السويداء، فما لبثنا، عدد من المحامين، إلا أن انطلقنا على وجه السرعة.
ليس كلّ من لبس العمامة بات رجلاً تقيًا وصالحاً، إنّما كانت وما زالت تُخفي عند بعضهم الكثير من المساوئ والعيوب
كنتُ مع الأستاذين العزيزين إبراهيم عربي ومفيد عماشة، عندما وصلنا إلى قرية سليم، والتي تبعد عن السويداء قرابة 7 كم حيث الآلاف من المحتجين، من طلاب المدارس وغيرهم، وقد تسلّحوا بما تيسر في طريقهم من عصي وخشب وأغصان شجر، كانت الأصوات عالية وغاضبة على ما يحصل في السويداء من قتل وهدر كرامة. لم يستمع أحد من المحتجين إلينا، وإنّما تابعوا المسير، بل لم يكترثوا للتنبيهات التي تقول إنّ فرقة من حفظ النظام توجد عند دوار العنقود بمدخل المدينة، ولن تسمح بعبور أيّ شخص إلا على دمائه.
قبل وصولنا وتلك الحشود الغاضبة لمسافة لا تتجاوز المائتي متر من تلك الفرقة، وصل كل من الراحل الشيخ، أحمد الهجري، وأمين فرع الحزب فهد مشرف، ثم ما لبثا أن صعدا "الجزيرة" التي تتوسط طريق دمشق السويداء، ليبادر "مشرف" بمخاطبة الحشود متوّسلاً إليها العودة، إلا أنّ الأصوات تعالت ممطرةً السلطة والحزب بشتّى الاتهامات والنعوت. هنا جاء دور العمامة وقيمة صاحبها، كلمتان فقط، لا ثالثة لهما نطقهما الشيخ، حتى تراجعت الجماهير الغاضبة واستكانت.
حينما سُئل الرئيس الفرنسي شارل ديغول عن رأيه بالعشيرة المعروفية، قال: "تحب الحق وتموت في سبيله"، والسؤال هنا: هل يعلم ذاك الشيخ معنى النطق بالحق والموت لأجله؟ رغم ذلك لا خوف على انتفاضة أهلنا في السويداء المطالبين بحقوقهم الوطنية المشروعة، فعمامة الشيخ المرحوم أحمد الهجري ما زالت هي القرار الفصل.
أخيراً كتب الخليفة الأموي عُمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطأة، وكان قد عيّنه والياً على البصرة يُقرعه ويتوعّده قائلا: "إنكَ غررتني بِعِمامَتِكَ السوداء، ومُجالستِكَ الُقراء، وإرسالك العمامة من ورائك، وقد أظهرنا اللَّه على كثير مما تكتمونَ..".