أنا سعيد جداً... في الجحيم

أنا سعيد جداً... في الجحيم

27 يناير 2024
+ الخط -

لست متشائمًا أبدًا.

حياتي سعيدة إلى أبعدِ حدٍّ، وستظلّ سعيدة حتى في زنزانة انفرادية.

لقد تمرست عبر دورات تكوينية طويلة على البؤس والقرف والموت، وتدربت على أن أُسعد نفسي في كلّ الأحوال، وأن أظلّ قويًا ومتماسكًا وساخرًا حتى وسط الوباء، وأن أظلّ مبتسمًا باستفزازٍ حتى بعد هزيمةٍ ماحقة. 

لا أنتظر أبدًا أن أرى شارعًا نظيفًا وأزهارًا على جنباته، ومارة مبتسمين.. كي أبتسم وأكون سعيدًا، بل أُخرج السعادة من أعماقي، كما تُخرج أمٌّ الحليبَ من أحشائها لرضيعها حتى في زمن الجفاف. 

كلّ يوم أستيقظ وأنا مبتسم، لأنّ أحلامي الشاعرة لا تخذلني أبدًا، ما لا أراه في الواقع أراه أوضح في أحلامي. أفطر كالعادة بالحليب والبسكويت كطفل، أُطعم عصافيري وأراقبها تُطعم صغارها وتحن عليها حنانًا بليغًا يصيبني أنا أيضا. أقوم ببعضِ التمرينات القتالية الخفيفة على السطح، لاكمًا وراكلًا الهواء كمقاتلٍ ينتظر حربًا مباغِتة. آخذ دوشًا باردًا. أنزل إلى غرفتي باسترخاء شديد، أقرأ ساعتين على الأقل كتبًا ممنوعة، وأكتب ما تبقى من وقت. أزور مقهاي الصباحي المفضل المشمس بواجهته الزجاجية الأنيقة قبالة المارة، ومساءً أجلس في مقهى الحرفيين الذي بلا واجهة تحت شجرة الكواتشو العملاقة، مستمتعًا بالضجةِ والصخب والحكايا والقهقهات وطعم الشاي المنعنع. 

أُخرج السعادة من أعماقي، كما تُخرج أمٌّ الحليبَ من أحشائها لرضيعها حتى في زمن الجفاف

آكل كعصفورٍ ما لذً وطاب من خَشَاشِ الأرض، وأتمشى في الشوارع الخالية المعتمة قليلًا كلّ مساء كذئب، وأنظر إلى العالم كعُقاب، وأحذر كأرنب، وأفكر كسلحفاة، وأتمطى على العشب كفهدٍ بعد الشبع، وأتأمل الملكوت طويلًا دون حركة كوزغة، وأتهكم كقرد، وأهرب كفأر، وأتباهى بريشي كطاووس، وأحدّق في المارة بتعجبٍ شديدٍ كتحديق سمكة، وأحزن كوردة فأفوح بالعطر. 

أزور السينما والمسرح والسيرك والمتاحف كلّما كان هناك مطر غزير وبرق ورعد وفيضان، وأزور غابة السويسي الجميلة الخضراء كلّ سبتٍ متأبّطًا كتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة"، وكلّ أحد أزور بار حلبة سباق الخيل، أشرب البيرة من القنينة دون كأس، والشمس تنعكس في زجاجاتها الخضراء الشفافة كفساتين نوم العرائس، وأراهن على الخيول الأجمل وليس الأسرع، ولا أمشي في جنازة أبدًا. 

الويسكي أشربه في الأعياد الوطنية فقط، والماء المعدني من قناني جميلة سماوية اللون أشربه في الأعياد الدينية فقط. 

أكتب لحبيبتي قصائد حب قصيرة وعاطفية جدًا بلغة أخرى، بأخطاء إملائية لاتينية لن يكتشفها أبًدا حفدة سيبويه المقطبين، أشتري لها وردة حمراء في عيد المرأة، أرسل لها صورتها عبر الواتساب وأشمّ بعمق رائحتها فيها، أسقيها كي لا تذبل سريعًا، وأسقي أزهارًا صغيرة جدًا على الرصيف، وفي عيون أصدقائي الجافة. 

أحدّق في المارة بتعجبٍ شديدٍ كتحديق سمكة، وأحزن كوردة فأفوح بالعطر

أشتري لأمي سواكًا وحناء عوض الورد، وأقبّل رأسها كلّ يوم، وأشتري لأبي، خلسةً، مجلةً ملونة جميلة ومليئة بعارضات الأزياء الفاتنات. 

أنا شاعر سعيد للغاية، أحبّ نهرًا طويلًا جدًّا، وليس عندي مشاكل أبدًا، ولن أسمح لها أبًدا أن تكون، لذلك أُغلق باب البيت باكرًا، وأُغلق باب ونوافذ غرفتي منذ سنوات، وأغلق الستائر، ولا أفتح سوى الكتب، ولا أُضيء سوى بشاشة حاسوبي، أو بتوهّج سيجارة، أو فقط ببريق عيني الذئبيتين الصغيرتين، وكلّ ليلة تسامرني فراشة عث، أو نملة، أو قصيدة لشاعر مغمور يكره العالم لأنّه أحبّه أكثر من اللازم. 

أكلّم عصافيري حين أحتاج إلى الصداقة أو إلى أحد أكلمه، أبوح لها بكلّ الأسرار الحميمة التي لن أستطيع البوح بها لأحد، وأشتم أمامها العالم بأقذع الشتائم فلا تتقزّز، ولا تشعر بأيّ استفزاز بل تغرّد تشجيعًا لي على مزيد من الشتم. 

أنام وصوت حبيبتي في أذني، وأستيقظ على صوت أمي. 

أقرأ كلّ يوم وأكتب كلّ يوم، وأرفع باستمرار صوت موسيقى "عمر فاروق" إلى أقصاها فلا أسمع ضجة الشارع، ولا نداء البراحين، ولا صخب الأطفال، ولا أزيز ماكينة الحدادة ولا شتائم عراكات أبناء الحي اليومية بالسواطير ولا أذان الظهر، بل ألغي كلّ شيء بكلّ شيء، وأعيش كأصمٍ، أبكم، مبتسم لا يرى سوى مروج روحه تتماوج في النسائم، ولا يسمع سوى زقزقات قلبه. 

لست متشائما أبدًا، بل أنا شاعر سعيد للغاية. فقط، أعرف جيدا أنّي سعيد في الجحيم، وليس في الجنّة، فالجحيم جحيم، لا يمكن أبدًا أن نغطيه بأوراق التوت، لأنّها تحترق بسرعة كلّ مرة. وعوض أن أغطيه بأيّ شيء، أصعد كلّ ليلة عاريًا إلى السطح، أطلّ وأبصق في الظلام عليه وعلى أشباح الأوغاد، أعوي بحرقة محدّقًا في القمر، ثم أعود، كأيّ وغدٍ حقيقي، مبتهجًا إلى سريري الدافئ.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.