ذكرى: كلمات متأخرة في ذكرى حزينة

ذكرى: كلمات متأخرة في ذكرى حزينة

28 نوفمبر 2014
الفنانة ذكرى (رسم أنس عوض)قُتلت ذكرى في عام 2003(Getty)
+ الخط -
قبل 11 عاماً احتفلت الفنانة التونسية، ذكرى محمد الدالي، بزواجها من أيمن السويدي زواجاً عرفياً. لم يطل العقد العرفي بين الفنانة، الأكثر نجاحاً بصوتها وتقنية أدائها، فتحول الزواج إلى عقد رسمي بعد ثلاثة أشهر، لكن ذكرى يومها لم تبدُ سعيدة بهذا الزواج، إذ كانت تهرب من شيء تفكر به كلّ يوم!

أذكر أنني التقيتها، العامَ نفسه، في مهرجان الدوحة للأغنية، وهمستْ حينها "أنا خائفة"! اتشحت بالسواد ورفضت عقد مؤتمر صحافي. كانت خائفة بعد عام تقريباً من تفجير الصحافة قضية اتُّهمت فيها بـأنها "شبّهتْ نفسها بالأنبياء". سكنها الحزن بعد هذا الاتهام، واستمر عاماً كاملاً جرّاء الشائعة المغرضة والتأويلات المتعسفة، مما دفع بعض رجال الدين إلى إصدار فتوى بإهدار دمها، لكن الفنانة الخجول أسرها الصمتُ، ولم توضح موقفها مما يحصل.
ظلت تنفي تهمة التشبّه، وجرى التأويل على نحو وجد فيه البعض إثارة. تدافعت عناوين الصحف والمجلات لتنال من ذكرى، لذلك رفضت الكلام، ولم تعقد المؤتمر الصحافي، من دون معرفة أسباب هذه الحملة الموجهة ضد صوتها ونجاحها.
قُتلت ذكرى في عام 2003 على يد زوجها أيمن السويدي، بعدما أصيبت بخمس عشرة رصاصة أطلقت من رشاش ألماني من نوع "هكلر". قال مقربون من الزوجين إن الخلافات بينهما قد تكون ناشئة عن رغبة السويدي في الانتقال للعيش مع زوجته بصورة دائمة، وأنها كانت ترفض ذلك. أعاد البعض أسباب الخلاف على ضوء أقوال خادمة ذكرى إلى غيرة الزوج الشديدة وشكوكه في سلوك زوجته.




لكن الملحن هاني مهنا، الذي اكتشف الفنانة ذكرى وكان وراء إقامتها في مصر، نفى هذه الاتهامات، مؤكداً أن أيمن أحبّ ذكرى بطريقة جنونية وصلت به إلى حدّ الغيرة العمياء، وكان يريدها أن تنظم أعمالها بطريقة مغايرة، ويومها أيضاً وردت معلومات أن زوجها أراد منعها من السفر للمشاركة في المهرجانات والاحتفالات في بعض الدول العربية.

فقدت الساحة الغنائية العربية برحيل ذكرى المأساوي صوتاً بقدرات خاصة، يصعب إيجاد خامة ومساحة صوت موازية له. كانت من أهم الأصوات التي ظهرت خلال السنوات العشرين الماضية، وعلّق عليها كبار الملحنين آمالاً عريضة لإثراء الطرب العربي لما تمتلكه من مواصفات عبرت عنها غناءً بأكثر من لهجة عربية أصيلة.



يقول الملحن هاني مهنا عن لقائه الأول مع ذكرى: "كنت قد سمعتها أول مرة سنة 1987، أوّل تعاملنا الفني بدأ عندما حضرت إلى مصر في 1992". انتشرت أغنيات ذكرى خلال السنوات العشر الأخيرة، قبل وفاتها، بشكل كبير، حتى أنها كانت من أوائل فنانات تونس اللواتي حققن شهرة واسعة في العالم العربي، بدءاً من قيامها بالغناء الوطني في ليبيا في بداياتها، ثمّ إغنائها الحياة الفنية من خلال أسلوب خاص ناسب إيقاع صوتها المميز. قدم مهنّا لذكرى "شريطين" غنائيين من ألحانه، وآخرين هما "وحياتي عندك، و"مش كل حب واسهر مع سيرتك" في عامي 1994 و1995. لونها الغنائي تميز بالطرب والإيقاع الشعبي القريب، "وحياتي عندك" مثلاً أدتها عام 96 عندما شاركت في مهرجان الأغنية العربية في بيروت. حينها لم يكن الجمهور اللبناني يعرف ذكرى جيداً، لكن أداءها كرّسها واحدة من أكثر المغنيات اللواتي أعجب بهن من المرة الأولى. يومها أيضا اختتمت بأدائها الآسر وصلتَها في الفوروم دو بيروت بأغنية "ما تصبرنيش" في مقطع لا تزال أصداؤه في لبنان مؤثرة على جمهور يعرف قيمة الطرب الأصيل وتفاعله وحسن أدائه.

كل ذلك لم يثن ذكرى، فظلت باحثة عن أغنيات جديدة، كي تخرج من حزنها عبر الغناء، الملاذ الوحيد لكل فنان صادق وحسّاس. شهدت تلك الفترة صعود نجم الملحن، صلاح الشرنوبي، بعد نجاحه الساحق مع الفنانة، وردة الجزائرية، في أغنية "بتونّس بيك"، التي قلبت كل المقاييس، ولجوء عدد كبير من النجوم إلى "الشرنبة"، ومنهم جورج وسوف وميادة الحناوي وراغب علامة وغيرهم كثيرون. كان لذكرى حصّة كبيرة، إذ إنها أنهت مسيرتها الفنية بواحدة من أشهر أغنياتها، وهي "يوم ليك"، التي أدّتها بتفوق لم يستطع أحد من الذين حاولوا غناءها لاحقاً أن يحقق ما حققته ذكرى ، ثم تابعت بـ "يا سايبني" أيضاً لصلاح الشرنوبي، تلك الأغنية أكدت فيها ذكرى أنها ملكة السهل الممتنع، الذي شهد عصره الذهبي بداية القرن الجديد وتوقف بعد سنوات.



ذكرى، إلى جانب لجوئها إلى القاهرة التي أحبتها، وكان للموسيقار، هاني مهنا، الفضل الأول في تثبيت خطواتها الأولى في المحروسة، كرّست نفسها واحدة من أفضل المغنيات اللواتي أتقنّ اللهجة الخليجية. من القاهرة إلى المملكة العربية السعودية مروراً بدبي والكويت وقطر، استطاعت أن تبهر جمهور الخليج وتثبت أنها أفضل من غنّى كلماته، وأدقّ من عرف كيف يوظف صوته على الألحان الإيقاعية. لم يخف منها أهل الخليج، خصوصاً المطربين، فأمدّها محمد عبده بالدعم، وغنّى معها دويتو "الحلم الوردي"، لقدرتها على توظيف صوتها ومحاكاة فنان العرب. نجحت ذكرى كثيراً في الخليج وكذلك فعل كبّار المطربين والأمراء الشعراء، الذين لفتت انتباههم، وأنتجت نحو سبع ألبومات خليجية. أبو بكر سالم أعجب بصوتها أيضاً، غير أن معركتها الوحيدة خليجيا كانت مع الفنانة أحلام، التي لم تستسغ أن يأتي صوت ذكرى ليأخذ مكانتها كمطربة خليجية، لم يكن لها منافس قوي.


ذكرى بعد إتقانها اللون الخليجي غنّت لكبار الشعراء والملحنين، رغم أنها بقيت على تعلق شديد بالقاهرة، وزواجها من أيمن السويدي جعلها تقسّم إقامتها ما بين تونس والقاهرة ودبيّ، وكثيراً ما كانت تزور بيروت، حيث التقطت آخر مجموعة صور لها في العاصمة اللبنانية. هي الصور التي زينت ألبومها الأخير "بحلم بلقاك"، بعدما حقق أعلى نسبة مبيعات. يومها أيضاً كان لشركة روتانا الفضل في إيصال صوت ذكرى بعد شهرتها القوية في الخليج إلى العالم، ومن بيروت المدينة التي حزنت كما تونس والقاهرة والخليج على وفاتها.

المساهمون