محمد بسطاوي: ما في الجبة إلا المسرح الملتزم!

محمد بسطاوي: ما في الجبة إلا المسرح الملتزم!

20 ديسمبر 2014
بسطاوي وزوجته (Getty)
+ الخط -
لو أن هذا الشاب الطموح ابن المغرب العميق، قرر في لحظة من حياته ومن تجربته الفنية، الاستمرار في طريق الهجرة، والتخلي عن الفن بالتحول إلى مجرد مهاجر مغربي زائد في إيطاليا، لما كان اسم محمد بسطاوي بارزاً في سماء الفن المغربي، ولكان، حينها، مجرد مهاجر اغتنى مثل أقرانه، لا يكاد يذكر له أثر.

لكنه في لحظة، قرر العودة من مهجره، في تلك السنوات من أواسط الثمانينيات، ليعود إلى الانضمام لوسط فني، في عمومه غير مهيكل، ولا يوفر للعاملين فيه العيش الكريم.

كان بسطاوي، كفنان يدرك هذه المعادلة الصعبة، وحين كنت تسأله عن تصوره للقطاع هل صار أفضل، بعد ظاهرة "شركات الإنتاج" كان يجيب بصراحة بدوية جميلة "والله تا غادين غير بالبركة"، وكان يقصد، أن ما يبدو من مظاهر عصرنة للمشهد الفني ليس إلا بروازاً، لا يمتّ بصلة إلى حقيقة الوضع، فلا الدولة ولا القطاع الخاص يملكان رؤية للتطوير، وبالتالي فالأمور تسير بـ"البركة"، لا أقل ولا أكثر.

هو من هذه الناحية، يمثل صورة الفنان المغربي الملتزم، دونما حاجة إلى شعارات كبيرة وفضفاضة. لقد كان يقول دائماً أن الزمن الحقيقي للمسرح قد ولّى. الزمن الذي كان يقف فيه الممثل على الخشبة، دون أن يدري إن كان سينهي المسرحية، ويخرج سالماً، أو سيقاد مباشرة إلى مخفر الشرطة للتحقيق معه.

وهذا قاسم مشترك بينه وبين عدد من المسرحيين المغاربة زمن "الفن الملتزم" وسطوة المسرح السياسي، الذي ميز العديد من التجارب المسرحية في المغرب وفي العالم العربي.

ففي سنة 1987 سيتم الإعلان الرسمي عن هوية مسرحية مغربية جديدة مع تجربة "مسرح اليوم" الفرقة المسرحية التي أسستها ثريا جبران الممثلة المغربية ووزيرة الثقافة السابقة، برفقة زوجها عبد الواحد عوزري العائد لتوه من تجارب المسرح الفرنسي.

كان محمد بسطاوي رفقة محمد خيي وعبداللطيف خمولي، الثلاثي الرهيب الذي سيقدم مع سيدة المسرح المغربي، أهم الأعمال، على الإطلاق، في تاريخ الخشبة في البلاد.

من ناحية، كانت جبران قد تمرّست جيداً مع مسرح الطيب الصديقي في عدد من الأعمال الكبيرة من قبيل "عبدالرحمان المجذوب" و "أبو نواس"، وأصبح لها اسم عربي خصوصاً مع تأسيس فرقة "الممثلين العرب" رفقة الطيب الصديقي، ونضال الأشقر، وممثلين من العراق وسورية والأردن وفلسطين، والتي قدمت مسرحية "ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ".

بسطاوي وخمولي وخيي وجبران، رفقة المخرج عوزري، وكتّاب مسرح من قبيل محمد قاوتي ومحمد بهجاجي، سيخلقون حالة مسرحية مغربية فريدة.

لا بد من الإشارة إلى أن زمن تأسيس فرقة "مسرح اليوم" صادفت فترة الانفراج السياسي في المغرب، التي كانت مشوبة بالكثير من التردد ومن الشكوك حول صدقية الدولة في فتح المشهد السياسي والاجتماعي المغلقين بعد حدثين اجتماعيين كبيرين هزّا المغرب، الأول هو أحداث الدار البيضاء الدامية سنة 1981، والثاني هو الإضرابات العارمة سنة 1984، والتي عمت العديد من مدن البلاد وأدت إلى اعتقالات كثيرة وعشوائية، وبالأخص في صفوف المنتسبين للنقابة الوطنية للتعليم.

كان هذا هو الجو السياسي العام الذي ولدت فيه فرقة "مسرح اليوم"، وبالتالي كان خطها الفني مطبوعاً بهذا المناخ العام، الذي يملؤه الشك والارتياب، حيث كان "زوار الفجر" يقومون بعملهم على أحسن وجه.

ولذلك ليس جزافاً أن تدشن الفرقة الجديدة التي كان الجميع يترقّب عملها الأول، ولادتها بمسرحية "حكايات بلا حدود" المقتبسة من نصوص للشاعر السوري محمد الماغوط.
كانت هذه الولادة، ترسم المسار العام، الذي ستأخذه تجربة "مسرح اليوم"، وهو المسار الذي جعل هؤلاء الشباب، بسطاوي وخمولي وخيي، "رهائن" في يد سيدة متمرسة وتعرف ما تريد.

بعد تجربة "حكايات بلا حدود" الناجحة، سيخوض بسطاوي مع الفرقة غمار تجارب أخرى، لعل أميزها مسرحية "بوغابة"، التي استنبتها الكاتب المسرحي محمد قاوتي عن مسرحية "السيد بونتيلا وتابعه ماني" لبرتولد بريشت، والتي قدمتها الفرقة بالدارجة المغربية، وبشخوص مغربية حافلة بالترميز السياسي، شكلت المنعطف الحاسم في المسرح المغربي، الذي وجد نفسه في صلب الأسئلة الاجتماعية والسياسية للمواطن وانتظاراته، ومن هنا جاء النجاح الكاسح للفرقة، في هذا العمل وفي أعمال تالية كتب نصوصها عدد من الكتاب المغاربة أمثال عبدالكريم برشيد ومحمد بهجاجي.

التجربة الثانية المائزة، في الحياة المسرحية للراحل محمد بسطاوي، هي تجربة "مسرح الشمس"، رفقة محمد خيي، صنوه الفني، وقد غادرا معاً "مسرح اليوم" ليعملا ضمن فرقة مسرحية جديدة، أرادت أن تكون أفقاً جديداً في الممارسة المسرحية مع عدد من الشباب المهجوس بالأسئلة الجمالية، التي لا تتخلى عن السؤال السياسي والاجتماعي، لكن لا تجعله محوراً لها تدور عليه، ومن بين هؤلاء الشباب، السينوغراف عبدالمجيد الهواس، الذي سيضفي لمسة خاصة وقوية على المسرح المغربي، انطلاقاً من اجتهاداته الأكاديمية.

لقد حصل وعي بأن تجربة المسرح السياسي في المغرب وفي العالم العربي قد استنفدت مهامها، لذلك لا بد من تجديد أدوات الخطاب المسرحي، ومن ثمة، كان لتأسيس فرقة أخرى هم الحامل الجديد للممارسة المسرحية في البلاد.

وفي حين واصلت ثريا جبران العمل منفردة ضمن "مسرح اليوم" وقدمت أعمالاً مونودرامية كبيرة من مثل "العيطة عليك" و"ياك غير أنا" و"امرأة غاضبة"، اختارت فرقة "مسرح الشمس" أن تقدم عملها الكبير "بوحفنة" سنة 1998، الذي كتب نصه الروائي يوسف فاضل.
كان وصول المعارضة السياسية ممثلة في حكومة عبد الرحمان اليوسفي، في تلك السنة، قد أثار الكثير من الأسئلة المقلقة حول أهمية هذه المشاركة في "زمن متأخر" لحزب معارض أمضى عقوداً في ساحات النضال.

وجاءت مسرحية "بوحفنة"، لتكشف عن عيب السلطة، أي سلطة، ورغبتها في الاستحواذ وفي ترويض خصومها، بل وفي الطمع حتى في ما يشكل خصوصياتهم.

وإذا كانت البطولة وهماً، فإن آليات الاستبداد على مر التاريخ، كانت هي نفسها، تغير جلدها لكي تفلت مؤقتاً من غضب الشعوب، لكنها تكشف عن وجهها الحقيقي عندما تستشعر التمكين بعد ذلك.

اللافت للانتباه، أنه قبل سنة من الآن، عادت فرقة "مسرح الشمس" التي أوقفت أنشطتها، لاعتبارات كثيرة، منذ 13 سنة، إلى إعادة تقديم مسرحية "بوحفنة" تحت اسم جديد "الباب المسدود"، في محاولة لعودة مؤسسيها، ومنهم الراحل محمد بسطاوي، إلى خشبة المسرح. كان الغرض هو إحياء لحظة من الماضي الفني، واختبار أسئلته في عالم اليوم، فإذا هي ذات الأسئلة.

فحتى وإن تغير اللاعبون على خشبة المسرح السياسي، مع حكومة جديدة في المغرب يقودها الإسلاميون فإن أمثال القائد "بوحفنة" ما يزالوا موجودين، يستغلون السلطات المفوضة لهم كي ينكلوا بالعباد.

وفي المسرحية، أن "بوحفنة" حتى وهو محال على التقاعد، ما يزال يمني النفس بسلطة موهومة، يسعى لاستردادها بأي ثمن، إلى أن يلقى حتفه.

في" بوحفنة" كان الراحل محمد بسطاوي يؤدي دور "الرقاص"، موزع الرسائل في زمن مغربي مضى حين لم يكن هناك ساعي بريد، والأكيد أن رسائل بسطاوي قد وصلت كفنان ابن الحياة وسليل تربته المغربية و"لد لبلاد" كما يسميه محبوه.

دلالات

المساهمون