المغرب والجزائر.. عينٌ على الماضي

المغرب والجزائر.. عينٌ على الماضي

24 أكتوبر 2014
+ الخط -

جالست العم عيسى، هو عارف بخبايا السياسة من دون أن يمارسها، تردّد بين المغرب والجزائر مُقاوماً، أيامَ كان الوعي السياسي على أشده، كما يَصِف المرحلة بلسانه، لمّا يجره مُستطلِع لمعرفة التاريخ.. عرف بفضل تنقله ما لم يعرفه المقيم، كل حديثه عِبر تتخللها أمثال شعبية، تعكس بمضمونها تجارب الحياة. أحكمت جلستي أمامه، وسألته. وجّه نظرته المُتعبة إليّ، تركها تعبّر، قبل أن يقول بصوته الخافت: أنت يا بني قصدت أن أحدثك عن تجربتي بين المغرب والجزائر. هذا يُحرك ذكرياتي من تحت ركام الأيام. الكلام عن هذا الموضوع يطول.. ما يؤلمني فيه هو نفي المجد الذي عشناه. قاومنا، قاتلنا، احتملنا الموت في سبيل وحدتنا. عاصرت الفتن، ورأيت أحداث الموت تغتال الرجال جوراً، وتسقطهم جماعات وفرادى.. وأذرع الاستعمار، هنا وهناك، تستولي على متاع الغير بالقوة.. وعيننا الواحدة كانت على العدو الواحد. وها هو العار! تحولت الصداقة إلى عداوة، والوحدة إلى فراق!

الحمد لله.. وهبت حياتي للموت، ووهبتني الحياة الرجولة. أيام شبابنا، مع قليل من الوعي، كانت الشجاعة فينا كعود الثقاب مع محك العلبة. كنا شرارة، كنا الوقود والشرارة. قاومت الاستعمار الغاصب، تعرف أنه كان عدو الدين والأرض والعرق.. قاومته في المغرب والجزائر، كنت أتبعه إلى هناك، أبحث عنه لتصفيته، هو المعتدي كان يريحني أن أفعل به ذلك. بحثاً عن كرامة وطني وشرف ديني. قوّتنا كانت في الجماعة. كنا نمتثل للروابط بيننا، ونخضع لها بإرادة حرة. وكانت قناعتنا ثابتة أن أرض المغرب والجزائر واحدة. لم يكن لدينا الشعور بالانتماء يختلف، ولا سبيل للتبرّم من واجب المقاومة. كنا إخوة، كأبناء الأم الواحدة..  كنا جماعات، نتبع البراري القفار نحو الجزائر عبر جبال الريف، هذه التي أحفظها، وأستطيع وصفها شبراً شبراً، لو تكلمت لقدّمت دروساً أغفلها التاريخ. ومن هناك، عبر مدينة وجدة، كنا نرتدي الليل لمُلاقاة إخوتنا هناك. كان التنسيق مُحكماً والغاية مشتركة. عملنا كان عمل الأبطال، نقوم به بحماسةٍ، لنلتقط الكرامة من وسط الألغام، والتقطناها، بوعي ومسؤولية.

في ليلة من الليالي، أحكيها لك قصة، ستظل في ذاكرتي مهما حييت، كُنا جماعةً هناك في غرب الجزائر، وانفردت عن غير قصد عن رفاقي في المقاومة، والظلام كثيف. واجهني الموت من ثلاثة جنود فرنسيين. كان الرصاص يأتي من خلفي، ويمر على بعد حركة خفيفة مني، وأمامي علو شاهق يمنع الهرب. أدركت أنه لا خيار! الحياة أو الموت. الرعب حينها ألهب نفسي، وتملّكني الشعور بالموت. وفي لحظةٍ بدأت الحياة بداخلي تعاند ما يحيط بي، في عراك الحرب ذاك، بين عدوانية إنسان وشجاعة آخر، انتصرت الشجاعة. فأمسكت بندقيتي التي كانت لا تفارقني. وراء شجرةٍ كبيرة الساق، كان مأمني. اختبأتْ، أنا الذي لم أدخل جيشاً، ولم أتعلّم خطط حرب نظامية؛ صرعت الثلاثة واحداً واحداً، وتركتهم مثل خراف تخور. هذه القصة يعرفها جدك، حكاها له أخوه المرحوم حمودة الذي كان معنا.

تنهّد العم عيسى بألم، وقال: آه يا حمودة، آه على الأحبة. لفظها بحسرة المهزوم الواهن. تحرّك يمنةً ويسرى، وبعدما سوّى جلسته من جديد، وهو يقاوم صلابة الأرض، رفع نظره إلى أعلى شجرة زيتون، كنا نجلس تحتها. وبصوت حزينٍ، فيه رقة: حمودة لم يمت عندي، يحيا في ذاكرتي. الحياة كفاح، لا طعم بدون كفاح. كان هذا هو شعاره، وكنت أقتدي به. كان هو معلمي في الحياة. كان يقول لي: الحياة شجرة تلد المر والحلو من الثمار. لن تعثر فيها دائماً عن الأوصاف التي ترضيك. تشكو، تكره، تيأس، لكن، لا تستسلم.. هذا هو كلام حمودة.

توقف العم عيسى يسترجع أنفاسه، قبل أن يضيف: قد تقول ماذا جنينا؟ لا. هذا سؤال لا يُطرح، في حدود ما كنّا نعتبره مسؤوليةً نابعة منّا، جنينا كل شيء. جنينا ملذة الوفاء. كنا نعيش الحياة على بساطتها، وننظر إلى المصلحة الكبرى. كانت أيامنا بلون واحد. لا أعيب الزمن، الحكم عليه يأتي من أفعال الناس، ومنها نرى وجهه. ولكل زمن رجاله، وصحيح أن الأزمنة في تبدّل، والتغيُّر سنّة الكون، ولكل جيل طابعه، لكن الحاضر لم يعد يعرف تلك المبادئ. تغيّرت معه حتى عواطف الناس. غاب عنه الطعم الذي كان. عشنا الصعاب ليس كما هي اليوم، لكن بمذاق حلو. هذا زمن تقلُّب النيات، وفقدان الثقة يا بني. يا للحسرة على الأيام الخوالي. الحديث عن الجزائر ينعش مزاجي، لكنه يؤلمني بعين الحاضر. أنت قد لا تحس هذا. مع جيلنا، كان الجزائر وطننا، وهم كان المغرب وطنهم. وأكبر ألم هو هذا الافتراق على درب التاريخ، هذه الكراهية القاتلة التي تزرعها أمزجة شخصية، وتغذيها بميولها العدوانية. ليس غلق الحدود بيننا أقل من جريمةٍ، يندى لها جبين شعبين. أنا بكيت لهذا. وما كان علي أن أبكي. الرجال لا يبكون! لكن تلك الأرض في الوجدان. كان ذهابي إليها مثل ذهابي إلى المسجد، إن رغبت. لا أستطيع وصف حبي لها، المشاعر لا ترسمها الكلمات. وهَن عظمي، ونال الزمن مني. الصحة لا تدوم، لكن الحنين لا يموت. هو يكبر مع مرور الأيام، ككرة ثلج على منحدر. هذه تجمع قوتها، وهي تسير، أما الإنسان على منحدر الأيام فتنهار قوته، ويكبر حجم الشوق، بقدر حبه الأشياء التي ضاعت منه.

أحنّ لتلك الأرض، كما أحنّ إلى قوة الشباب. آه!! لو كانت هذه لذهبت متخفياً لأصلي هناك خاشعاً، كما أصلي، هنا، دائماً للوحدة بصمت، وأنا أسترجع تلك الأيام بعشق الغريب عن وطنه، داعياً أن تنكسر هذه القبضة الحديدية، وينتهي هذا الصراع الأجوف. كم تضيع علينا فرص المضيّ إلى الأمام. وكم من أحبةٍ، هنا وهناك، يربطهم الدم؟ والقساة لا يبالون، ولا يأبهون لهموم الناس. هكذا هي النفوس المظلمة، لا تعرف الحب الإنساني. مفتعل هذا الصراع، لا هو غالب ولا مغلوب، المظلوم هو الشعبان، صودر حقنا في التنقل، وأصبحنا صغاراً أمام قلة تركب أهواءها، عُدنا معركة تصفية الحسابات الضيقة، آه يا رب. هل من شيء يكبر إرادة شعبين!

كما قلت لك، مع جيلنا كنا نعيش الوحدة والبناء. رحلت هذه مع رجال أوفياء. أتى مكانها التفكك والتفرقة. حمودة كان يقول إن من أراد الغاية لزمته الوسيلة. أين هذه وتلك؟ وأين أمثال حمودة؟ اختفت الغاية، وتخاذل الناس أمام ساسة غير أسوياء.

هذا الصراع المفتعل لا يوجد يا بني ما يعلله، سوى كراهية جوفاء، أين العقلاء؟.. ما ذنب الشعوب، إن طغت الأنظمة؟ اللعنة على الشر. ضعفنا وخارت قوانا من قرارٍ لا نريده.

مسح دموعه بكم عباءته. ثم قال: الكل يصرخ ضد هذا. تحليل العقلاء يقول لا. واقع الحياة يقول لا. وأنا، عمك عيسى الذي قاومت هنا وهناك، أقول لا. لا لخيانة وحدة العرق والدين والجغرافيا، والتاريخ، والدم. أختي ماتت هناك، ولم أرها، كانت متزوجة هناك. كتب زوجها إليّ رسالة قبل عشر سنوات من وهران. كلها دموع! يبكي فيها طول الفراق. قال في رسالته يخاطبني: ''يا عيسى، كان أملها أن تراك. أن تشم هواء وطنها لتطفئ نار عشقها، وليأخذها الموت بعد ذلك، كانت تقول".. ويضيف شاتماً: "لا حول لنا، فراقنا طيش الكبار بلا سرية ولا حياء".
 
بكيت لكلام هذا "الوهراني" أياماً وليالي، أكثر من بكائي على أختي كنزة، رحمها الله. أنا  الذي عشت هنا وهناك، عرفت أن النكتة الواحدة تضحك، هنا وهناك. هذا اليقين على وحدة الثقافة تحت سقف واحد لِمَ طمسه؟ نحن واحد. كفصي حبة فول. تخرج النبتة من تلاحم الشقين، فتعطي نباتاً حسناً.

avata
avata
لحسن عبود (المغرب)
لحسن عبود (المغرب)