من نفحات غزة العصيّة

من نفحات غزة العصيّة

23 يوليو 2014

صيادون فلسطينيون في بحر غزة عام 1972 (Getty)

+ الخط -
طوبى لشهداء المقاومة. طوبى للأطفال الذين تحولوا إلى أشلاء، من دون قتال اضطلعت به أيديهم الطرية. فهؤلاء قضوا قرباناً للمعنى الذي يمثلون. إنهم أطفال فلسطين الخالدة في الضمائر. ففي غزة، لا ينقلب حجر من دون أن ينكشف على حكاية. في رقعتها الضيقة، ثمة تكثيف شديد للأمنيات الفلسطينية، بقدر ما يصطخب المكان بكثافته السكانية. المحتلون المجرمون، بدورهم، جعلوا كراهية غزة تكثيفاً لكراهية الفلسطينيين، إذ رضعوا هذه النوازع الشريرة، من قديم، عبر أساطيرهم التي دونها الأحبار. ففي توراة الأرض السبخة، لا في توراة السماء الصافية، كتب أحبار اليهود، وهم يؤسسون نبوءاتهم، إن غزة "ستكون متروكة وصلعاء". ولما اجتهد الباحثون، ورأوا غزة مدينة ساحلية زاهية، تزدحم بالعمائر والناس، قالوا، بدايةً، إن نبوءة الأحبار التي يسمونها نبوءة توراتية، تبدو خاطئة. لكن واحداً منهم تنبه إلى حقيقة وجود عدة "غزّات"، قامت فوق بعضها. ابتنى السكان كل واحدة منها، في عصر من عصورها التاريخية. فكلما تهدمت غزة، بمعاول الغزاة، أنشأ الناس أخرى غيرها، فوق ركامها. قال باحث بروتستانتي متصهين، هو بيتر ستونر(1888 ــ 1980)، إن مدينة غزة التي توُجد، اليوم، ليست هي غزة القديمة. "فالقديمة مدفونة تحت غزات ظهرن بعدها. معنى ذلك أن الأولى، أصبحت صلعاء، ثم كستها العصور بالغزات التي بعدها"!
اطمأن الإمبرياليون والمحتلون والعنصريون إلى أنهم "حلقوا" لغزة من قديم، وتحققت نبوءة الأحبار. لكن غزة التي عرفها، أو سمع عنها، بيتر ستونر، عندما كان على مشارف الثلاثين من العمر، كانت الصخرة التي تحطم عند أبوابها الجيش البريطاني، في ما يسمى في التاريخ العسكري للبريطانيين "معركة غزة الأولى" التي وقعت في السادس والعشرين من مارس/آذار 1917. يومها سجلت غزة الخطوة الأولى لإطاحة الجنرال ميوري الذي لم يحقق، بكل ما لديه من قوات، أكثر من الحصول على موطئ قدم، مدة قصيرة، في تلة المنطار في شرقي الشجاعية. انكفأ ميوري، ومعه الفرقة 52 أيقونة الجيش البريطاني التي تساندها المدفعية من البحر. ازدادت غزة حماسةً، وهي تعلم أنها تدافع عن القدس. وبعد نحو ثلاثة أسابيع، عاد ميوري إلى الهجوم، عندما تلقى تعزيزات من كتائب أخرى، شُكلت من شعوب المستعمرات، وذخائر ومعدات. بدأت "معركة غزة الثانية" في التاريخ العسكري البريطاني، يوم 19 أبريل/نيسان 1917، ولم تستغرق سوى يومين. فقد أوقعت غزة، بجيشها العثماني آنذاك، ومتطوعيها، هزيمةً بليغة في جيش البريطانيين الجرار، وأطاحت الجنرال ميوري، ليحل محله الجنرال إدموند اللنبي. طلب هذا مزيداً من التعزيزات، وقال إن غزة تحتاج إلى مزيد من القوات، وإن هزيمه سلفه لم تكن بسبب ضعف "عبقريته" العسكرية، وإنما بسبب بسالة غزة. خاض اللنبي بجيشه الجرار ما تعرف بـ"معركة غزة الثالثة"، بعد التردد والتحضير والتدريب سبعة أشهر. فمع منتصف ليل 1 ــ 2 نوفمبر/تشرين الثاني، انقض الجيش البريطاني على غزة، راغباً في الثأر لهزيمتين سابقتين، ودارت رحى المعارك، ويقول البريطانيون إنهم، في اليوم السابع من الحرب، توصلوا إلى نتيجة مفادها بأن النجاحات المتوقعة ستكون هزيلةً جداً، قياساً على حجم النيران والقصف والقوات. عندئذٍ، كانت لهم هزيمة ضمنية، جعلت لويد جورج، رئيس وزرائهم، ينصحهم بالاختراق عبر ثغرة على الخط الواصل بين غزة وبئر السبع، وهكذا كان!
في 1949، عندما كانت العصابات الصهيونية مزهوةً بإعلان دولتها؛ جاءت تعليمات القاهرة إلى اللواء أحمد فؤاد صادق، بالانسحاب من غزة وإخلائها، لكي يقايض بها بن غوريون طرفاً عربياً يتمنى لنفسه ميناءً على البحر المتوسط، ضمن صفقة تحالف. وقبل أن يجيب صادق عن البرقية، جمع مخاتير غزة وناشطيها ليقول لهم، إن لدي أوامر بالانسحاب، بضغوط بريطانية على القاهرة، لكنني أرغب في عدم إطاعة الأمر، والدفاع عن عروبة غزة. سألهم يومها: هل تقاتلون معي؟ ردوا بحماسة إنهم سيقاتلون. رفض الأوامر، وقاتلت غزة معارك شرقي القطاع في "كرم أبو سالم" و"الدنقور". وفيما بعد كتب جنرالات العدو إن ما وقع من خسائر للجيش الإسرائيلي في المعركتين، يزيد عن عدد القتلى في جميع معارك ما يسمونه "الاستقلال وإعلان دولة إسرائيل"!
غزة التي احتلها الإسرائيليون بفعل هزيمة 67 لم تكفّ عن القتال وعن المقاومة، وفي ذات خطاب لرفع معنويات جيشه، قال جمال عبد الناصر إن غزة يحكمها الإسرائيليون في النهار والفدائيون في الليل.
كأن غزة هذه، بل كل الغزات في باطن أرضها؛ خلقت مشروع مقاومة. لذا، هي لا تزال عصية على الأوغاد، وقد تمنى أحد قادتهم أن يبتلعها البحر. لكنها لا تزال شامخة، لا يبتلعها بحر، ولا يخنقها معبر أو حصار!