يافا... في ذاكرةٍ بعيدة

يافا... في ذاكرةٍ بعيدة

31 أكتوبر 2014

جنديان بريطانيان يطلان من فوق بناية على يافا (مايو/1936/Getty)

+ الخط -
كان انحيازاً أخلاقياً وجمالياً راقياً لفلسطين، أن يفتتح مهرجان الجزيرة الدولي للأفلام التسجيلية، دورته العاشرة بفيلم اسمه "أوتار مقطوعة" (26 دقيقة)، عن بهجة أطفالٍ من غزة بالموسيقى وتعلمها، والألم معها، إبّان العدوان الإسرائيلي على القطاع وناسه الصيف الماضي. وكان بديعاً من أهل المهرجان أن يسْعد حضور حفلي افتتاحه وختامه بفلسطين أيضاً، في أداء فتيةٍ من فرقة "الكوفية" رقصات وأغنيات من الفلكلور الفلسطيني. والجميل البهي، أيضاً وأيضاً، أن فيلماً فلسطينيَّ المذاق والموضوع، اسمه "لقاء في أرض مفقودة"، منحته لجنة التحكيم الجائزة الذهبية الكبرى للمهرجان. فكما كان الافتتاح بعرض فيلم قصيرٍ عن لحظة فلسطينية ساخنةٍ راهنة في غزة، كان الاختتام، السبت الماضي، بعرض هذا الفيلم الطويل (62 دقيقة) الفائز، والناطق بالفرنسية، عن لحظةٍ فلسطينية بعيدة، من إخراج وإنتاج ماري لويز غرغور، والتي بذلت فيه مجهوداً تقنياً لافتاً، فجاء جذاباً وإيقاعه رهيفاً.
هناك في يافا، في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته وبعض عشرينياته وخمسينياته، عاش مواطنون فرنسيون في هناءة بالٍ ووداعة، في وسطٍ فلسطيني راقٍ، وفي أجواء من تواصل اجتماعي مشحون بالألفة، مع الجيران من عائلة غرغور. تستدعي فرنسيتان عجوزان، من ذاكرتيهما البعيدتين، تفاصيل ومناخات من ذلك الزمن. في حديثٍ طلقٍ، تتداعى فيه تفاصيل حارّة، تدردشان عن يافا وشوارعها وصحفها والرحلات منها إلى القدس والنزهات عند البحر، عن قصص حبٍّ وصداقات، عن سهرات أعياد الميلاد، وحفلات مع قناصل ودبلوماسيين في فندق الملك داود في القدس. يشارك في الحكي عن هذا كله وغيره فلسطينيون فرنسيون من عائلة غرغور، أحدهم صار دبلوماسياً، ويستدعون مروياتٍ من أسرهم عن بيوتهم التي راحت هناك. وفيما تُنصتُ إلى هذه الحكايات تشاهد صوراً فوتوغرافية قديمة للجميع إبّان طفولةٍ نائية، وجرائد قديمة، ووثائق عقار، وعقود زواج وشهادات ميلاد، وأختاماً فلسطينية وعثمانية، وترى برتقالاً من يافا يسافر من الميناء إلى أوروبا. تشاهد صوراً متحركة عتيقة، في شوارع في يافا وبعض فلسطين، مرفقة بموسيقى تنشلك من قاعة لوسيل في فندق ريتز كارلتون في الدوحة، إلى هناك، وإلى ذلك الزمن، وفيه رغد فلسطيني بهيج، حتى إذا صار النهب والطرد والتهجير والتدمير، في اعتداءات عصابات الصهاينة، ثم في احتلال 1948، يغدو الجو غير الجو. ومرويات "لقاء في أرض مفقودة"، كما تسردها السيدتان الفرنسيتان تحديداً، تستنفر أسى جارحاً وشفيفاً، عندما تعتني ماري لويز غرغور بالذي سرقه المحتلون من بيوت عائلتها من إكسسوارات حميمة وأثاثٍ نادر، وإن أودع قليلٌ منه في منزل جيران فرنسيين لحمايته.
فيلم عن فلسطين الباقية في ذاكرةٍ، تستحق الفنانة ماري غرغور تقديراً جليلاً لجهدها الرائق في صيانة مقطع يافاوي منها، في صنيعٍ سينمائي، أظنه غير مسبوق بهذه الكيفية. فيلم يوثّق، بفنيةٍ عالية، كيف تم التهجير من يافا، وكيف تغيّرت أسماء شوارع، وكيف هدمت قرى، وقُتل فلسطينيون كثيرون. تتحدث السيدتان الفرنسيتان عن هذا كله، وغيره، وكأنه جرى أول من أمس. تنصت إلى حكيهما عنه، فتقع على شعورهما بالفقد الشخصي، وهما اللتان غادرتا فلسطين منذ أزيد من ستين عاماً، وتقيمان في بلدهما فرنسا.
يافا التي نبّهت صحيفة "فلسطين" فيها، في مطالع القرن الماضي، إلى ضياعٍ سيصير، هي التي انطلقت فيها أول انتفاضة فلسطينية في 1920، والتي لم نكن نصادف اسمها إلا مقروناً بأنها "عروس البحر"، ثم صارت "أرض البرتقال الحزين"، بعد أن غابت عنها تلك الإيقاعات الحنونة والشجية التي أخذنا إليها فيلم ماري لويز غرغور. صارت بائسة الأحوال، من فرط عسف الاحتلال المقيت... شاهدنا مقطعاً منه ثاوياً في التاريخ في مختتم مهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية، ومقطعاً منه مستجداً في الراهن في الافتتاح.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.