حارس الديمقراطية التونسية

27 نوفمبر 2014

ناشطات في منظمات مدنية تونسية يتظاهرن ضد القمع (29نوفبر/2010/أ.ف.ب)

+ الخط -

ثمة جنود مجهولون كثيرون لعبوا، ومازالوا، يلعبون أدواراً مهمة في إنجاح الانتقال الديمقراطي في تونس. وليس الحديث، هنا، عن دور الجيش الذي حمى الثورة، ولم يطمع في سرقتها، ولا عن حكمة قيادة حركة "النهضة" التي جنّبت بلادها السقوط في أتون الحروب التي انجرّت إليها ثورات الربيع العربي، في دول أخرى. سطور هذه المقالة عن الدور الذي لعبه المجتمع المدني في جميع مراحل الانتقال الديمقراطي الذي تعيشه تونس، منذ قيام ثورة الياسمين عام 2011، مسجلاً حضوراً قوياً في جميع المحطات الحاسمة، بالاحتجاجات في عز الثورة التي أسقطت النظام، والاعتصامات من أجل تصحيح المنعرجات الخطيرة التي كانت ستؤدي إلى تحريف مسار الثورة، والترافع لتقديم المقترحات، وصولاً إلى مراقبة إعداد انتخابات حرة وشفافة وتنظيمها.
دور المجتمع المدني جسدته بقوة الرباعية التي كانت مكوّنة من "الاتحاد العام التونسي للشغل"، و"الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية" و"الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان" و"الهيئة الوطنية للمحامين"، والتي لعبت دور الحَكَم بين الفرقاء السياسيين، وجنبت البلاد الدخول في أزمات حادة. وظهر هذا الدور جلياً في أثناء فترة إعداد الدستور، عندما تحول إلى قوة ضغط لفرض اقتراحاته على القوى السياسية، وأجبرها على تقديم تنازلات كبيرة في مواضيع حساسة وحاسمة. لكن، سيبرز هذا الدور بقوة في محطات الاستحقاقات التي عرفتها تونس عامي 2011، و2014، في أثناء فترات إعداد الانتخابات ومراقبتها.
وحسب موقع "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التونسية"، فإن عدد المنظمات المدنية التونسية المعتمدة لمراقبة الانتخابات الأخيرة بلغ 233 منظمة مدنية، يمثلها أكثر من 25 ألف ملاحظ، موزعين على كامل التراب التونسي. منها منظمات مثل، مراقبون، وعتيد، ومرصد شاهد، وأٌلاحظ، ومرصد بلعيد، والجمعية التونسية لنزاهة وديمقراطية الانتخابات. وقد عزّز وجود هذا الجيش من نشطاء المجتمع المدني ثقة الناس في مصداقية نتائج الانتخابات، وحفز كثيرين منهم على المشاركة فيها. وقد أشادت مؤسسات دولية كثيرة بالدور الكبير الذي لعبه المجتمع المدني التونسي في إنجاح الاستحقاقات التي عرفتها تونس بعد الثورة.
وقد أضفتْ المشاركة القوية للمجتمع المدني التونسي في مراقبة الانتخابات معنى آخر على هذه العملية، وأعطتها أكثر من بعد، وحصّنتها ضد الانزلاقات التي كان يمكن أن تعرفها. فالحضور القوي لملاحظي المجتمع المدني، في أغلب مكاتب الاقتراع، كان بمثابة العين اليقظة للمجتمع في أثناء لحظة حاسمة من تقرير مصيره.

وعلى الرغم من العزوف الملحوظ للشباب في الانتخابات التشريعية والرئاسية، إلا أن احضورهم القوي داخل منظمات المجتمع المدني يعكس مدى اهتمامهم بالشأن السياسي، على الرغم من عدم رضاهم على أداء السياسيين. فالشباب الذي أظهر عزوفاً واضحاً عن المشاركة في الاستحقاقات السياسية الأخيرة، بسبب عدم الوفاء بالوعود الانتحابية، لم يتخذ موقفاً سلبياً من الاستحقاق الانتخابي، وإنما تحول إلى دور المراقب لنزاهته، وبات يلعب دور الضمير اليقظ داخل العملية السياسية برمتها.
في عهد ما قبل الثورة، حاول النظام السابق أن يقضي على المجتمع المدني، بالترهيب والترغيب، فتعرض نشطاء مدنيون مستقلّون عديدون إلى الاضطهاد والتعذيب والاعتقال، أو أجبروا على مغادرة البلاد، ومن بقي منهم تم تدجينه أو إسكاته. أما اليوم فقد تحول المجتمع المدني في تونس إلى سلطة مضادة، وقوة ضغط، وقوة اقتراحية، وفرض نفسه حارساً أميناً للمسار الديمقراطي، وشاهد إثبات، طوال مراحل العملية الانتقالية.  لكن، هناك مخاوف من تآكل تنظيمات هذا المجتمع من الداخل، لأن كثيرين من رموزه هجروا إلى الأحزاب السياسية بعد الثورة، الأمر الذي بات يطرح مشكل البديل. فأبرز رموز نشطاء المجتمع المدني وقادته اليوم في تونس هم من اليسار الذي تشكل داخل التيارات اليسارية التي كانت ناشطة في الجامعة، في ستينات القرن الماضي وسبعيناته وحتى ثمانيناته. ومع الثورة التونسية، ولد جيل جديد من النشطاء، أغلبهم متحمسون، لكنهم غير مؤطرين سياسياً، وهو ما يمنحهم استقلالية كبيرة في تحركاتهم، لكنه في الوقت نفسه يجعلهم أكثر هشاشة أمام كل الاختراقات الممكنة. وهنا، يكمن أحد المخاطر الذي يهدد أول قلاع ثورات الربيع العربي وآخرها.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).