معركة غزة الأسدية

معركة غزة الأسدية

01 اغسطس 2014

دمار في حمص (مايو/2014) ودمار في غزة (يوليو/2014)

+ الخط -
يصعب أن يفهم المرء عدوان إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزة، من دون إدراجه في سياق عام، تعيشه المنطقة العربية منذ قرابة أربعة أعوام، سمته الرئيسية سحق شعوبها بأسلحة جيوش نظمها من جهة، وتعامي العالم ومؤسساته الشرعية عما يجري، أو سكوته عنه من جهة أخرى. هذان الأمران المتلازمان يقعان في سياق إعادة تفتيت منطقة المشرق وإعادة تركيبها، انطلاقا من سياسة "الفوضى الخلاقة"، التي كانت قد بشرتنا بها وزيرة خارجية واشنطن، في أعقاب احتلال العراق عام 2003، وما لبثت أن استغلت ثورات الربيع العربي من أجل الحرية والكرامة، لكي تخترقها وتحولها عن أهدافها، وتقلبها إلى حروب متداخلة متشابكة، تنخرط فيها قوى متباينة أشد التباين، يشترك طرفاها الرئيسيان: النظم القائمة والتنظيمات الإرهابية، في قتل شعوب المنطقة وتدمير ما عمرته خلال قرون.
تبين مناظر الدمار في غزة التشابه، بل والتطابق بين ما يجري هناك اليوم وفي سورية منذ نحو أربعة أعوام، فالمشاهد المرعبة، التي رأيناها على شاشات التلفاز لأحياء سويت بالأرض، أو محيت عن وجهها، وصور الجثث المرمية في الشوارع، وقد فتكت بهم قنابل الطائرات والمدافع والدبابات وصواريخ الطائرات، تذكر بحمص وجوبر وداريا والمعضمية ودير الزور وحماه وحلب ودرعا وعشرات آلاف الأحياء في مدن سورية وقراها، فأنت عندما تنظر إلى غزة، فكأنك ترى دمشق أو حلب، وحين تنظر إلى حماه وإدلب، فكأنك ترى حي الشجاعية أو مدينة رفح وخانيونس، فالدمار نفسه،  والشهداء هم عين الشهداء، والدم هو الدم ذاته، والقاتل واحد، ويستخدم أسلوباً واحداً في القتل والتدمير والإبادة، ويتبع نهجاً مشتركاً في اعتبار كل من ليس في صفه، أو منه، ومعه، مخرباً وقاعدة وأصولياً وتكفيرياً، لا مكان له، بالتالي، في هذه الحياة الدنيا.
لن نقارن ما يجري في غزة مع ما يجري في سورية، ليس لأن المقارنة غير ممكنة، بل لأنها مما يفرض نفسه، ويعتبر، بالتالي، تحصيل حاصل، وإن كان ثمة فرق جوهري بين الحالتين، فهو أن صهاينة فلسطين يقتلون شعباً أجنبياً وغريباً عنهم، أما صهاينة دمشق فيقتلون شعبهم، الذي لطالما تغنوا به، وزعموا أنهم يستمدون شرعيتهم وهويتهم منه، وأن وظيفتهم الوحيدة تكمن في المحافظة عليه، عزيزاً كريماً، لكنهم أسفروا عن وجوههم أعداء له، ما إن طالبهم ببعض حقوقه الطبيعية، وأخذوا يبطشون به إلى الحد الذي شجع بقية طغاة العرب على تقليدهم. ولو راقبنا ما جرى في اليمن إبان ثورتها، لوجدناه ينقسم إلى مرحلتين: واحدة سبقت الثورة السورية، كان النظام خلالها متحفظاً نسبياً في قتل المتظاهرين، وأخرى تلت الثورة السورية، وما شهدته من مقاتل منظمة قام بها النظام، شجعت النظام اليمني، الذي بدأ طوراً أسدياً من سلوكه، قتل فيه المئات كل أسبوع، كأن علي عبد الله صالح كان يقول: " ليش مسموح للأسد وما مسموح لي أنا. بدي أعمل متله، والمقبول دولياً عنده لازم يكون
 مقبول عندي أنا كمان". أما إسرائيل فقد غدا حكامها أسديين بامتياز، ومن يقارن قمعهم الثورة في فلسطين، قبل قمع النظام الثورة السورية وبعده، سيجد أنهم تعلموا الكثير من الدرس الأسدي، وأن موقفهم يكرر ما يفعله الأسد ضد شعبه. لذلك، انتقلوا من تدمير البيوت إلى تدمير الأحياء والمدن، ومن قتل المقاومين إلى قتل الأطفال والنسوة والشيوخ، ومن قصف المواقع العسكرية إلى قصف المشافي والمدارس والأفران والاسواق، بعد أن علـّمهم سلوك الأسد أن خطة تفتيت وإعادة تركيب المنطقة تسمح لهم بفعل كل ما يخالف القانون الدولي والإنساني، وأن عليهم إطفاء جذوة المقاومة والحرية في نفوس الفلسطينيين، بالقضاء عليهم أفراداً وجماعات، مقاومين مسلحين وشعباً أعزل، ومن الضروري والمقبول إطلاق يد جيشهم في الآمنين، وتكليفه باستخدام أكبر قدر من العنف المفرط ضد كل فلسطينية وفلسطيني. إذا كان الأسد قد فتت شعب سورية ودولتها بالقوة والعنف، وخلق فراغاً في المشرق بخلوه المتزايد من مجتمعها ودولتها، لماذا لا تستغل إسرائيل المقتلة الرهيبة الجارية في سورية والعراق ضد من يقاوم نظاميهما، لكي تنظف بدورها غزة وفلسطين من أية قوة يمكن أن تقاومها: اليوم، وفي أي يوم من مقبلات العقود، لتكتمل وتتكامل بذلك دائرة التنظيف، وتخلو المنطقة بأسرها من أية قوة تنشد الحرية، وتناضل في سبيل تحقيقها، داخل فلسطين وخارجها؟ ثم، أليس ما يفعله الأسد ونوري المالكي سانحةً تاريخيةً قد لا تتكرر، يجب أن تستغلها إسرائيل، لإرساء هيمنة مطلقة على منطقةٍ ستعيش، حقباً قادمة، فراغاً عسكرياً وسياسياً. وبالتالي، فراغ قوة، بسبب تدمير مجتمعاتها وقواها الحية، ودولها، وما كان قد تحقق فيها عبر التاريخ من تقدم وعمران؟
ليست معركة فلسطين منفصلة عن معركة السوريين والعراقيين من أجل الحرية، وإذا كان الاحتلال الإسرائيلي، الخارجي، هو عدو غزة، فإن سلوك نظامي دمشق وبغداد يجعل منهما احتلالين داخليين لوطنيهما، تتفق أفعالهما مع ما فعله الصهاينة تاريخياً ضد شقيقهما الثالث، شعب فلسطين، الذي يخوض أبناؤه معركة الحرية في سورية، إلى جانب إخوتهم هناك، لإيمانهم بأن الانتصار المشترك في دمشق هو انتصار للقدس وغزة ورام الله ونابلس والخليل وأريحا، ولحيفا ويافا واللد والرملة والبيرة والناصرة، وبأن شعبهم الذي علم أشقاءه النضال والتمسك بالحرية، لن يبقى في حاله الراهنة، بعد أن يسقط صهاينة الداخل، ويتفرغ أحرار سورية لشركائهم في القتل: صهاينة الخارج!
 
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.