من ضرب تل أبيب؟

من ضرب تل أبيب؟

23 يوليو 2014

مشهد عام لوسط تل أبيب (ديسمبر/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

في العام 1988، توجهت إلى مقر الإدارة العسكرية المدنية في غزة، لاستخراج تصريح للسفر إلى مصر، فسألني الحاكم العسكري، وكان يتخذ اسماً حركياً هو "أبو ناصيف": أليس من العيب أن نربيكم على حليب ولبن "تنوفا" الإسرائيلي، ثم تضربوننا بالحجارة. فأجبته في ثبات: وأليس من العيب أن يبني عمالنا تل أبيب، ثم تأتي مجندة لتعلن بصوتها الركيك منع التجوال على كل سكان غزة من مكبر صوت، وهي تجوب شوارع المخيمات وأزقتها، في جيب عسكري. فضحك الحاكم العسكري، وربت على وجنتي، في غلٍّ لا أنساه.
حملت في داخلي منذ صغري نقمة على هؤلاء، خصوصاً حين زرت تل أبيب، ورأيت جمالها وروعة مبانيها، وهي التي قامت على أيدي العمال الفلسطينين الذين كانوا يعملون في جميع أعمال الإعمار. وفي مقابل ذلك، ينالون الذل والهوان، ولم أنس بالقطع مجندة أخرى على جسر الملك حسين، والذي يفصل الضفة الغربية عن الشرقية، حيث كانت توغل في إذلالنا، وتطلب منا خلع ملابسنا كاملة، كإجراءات أمنية، قبل أن نجتاز الجسر، متوجهين أو قادمين من عمان وإليها.
تل أبيب تعتبر ثالث أجمل مدينة في العالم، حسبما صنفها الدليل السياحي "لونلي بلانيت" من بين عشر مدن. تتمتع بمناظر خلابة، وتحوي كل ما يخطر على البال من الفنون والموسيقى والثقافة الليبرالية، ويجذب شاطئ المدينة والحياة الليلية، فيها السياح والمحليون على حد سواء، حيث يستمتعون بثلاثمائة يوم من الجو المشمس سنوياً في المدينة التي لا تنام أبداً، كما توصف في النشرات السياحية. ولكن، لا أحد، بالطبع، يذكر أن تلك المدينة قامت على أطلال مدينة فلسطينيةٍ، ولا أنها بنيت بسواعد عمال غزة تحديداً، والذين كانوا يموتون كما يموت العصفور عندما تصطاده بندقية، فقد كان موتهم غالباً سقوطاً من على "سقالات" البناء البدائية التي كانوا يقعون من فوقها، وهم يبنون ناطحات السحاب الأعلى في إسرائيل، مثل مركز عزارئيلي وناطحة شالوم مائير. ومن لم يمت بهذه الوقعة البشعة، كان يعود مقعداً ومشلولاً إلى غزة، مع تعويض مالي بسيط من المقاول اليهودي الذي استقدمه.
تل أبيب، اليوم، التي أصبحت أسطورة في نظر العرب قبل الأجانب، تنخز في خاصرتها، حين تدكها صواريخ المقاومة، التي مهما بلغت قوة تدميرها، لا تقارن بالصواريخ التي تطلقها إسرائيل على بيوت الغزيين البسيطة والمتهالكة، ولكن صواريخ المقاومة استطاعت أن تفرض حظر التجول على سكان تل أبيب، بتوزيع معادلة عادلة، هي معادلة الخوف المتساوي والموت المتكافىء.
في أيام الحرب الأولى على غزة، حين أعلنت كتائب المقاومة الفلسطينية أنها ستضرب إسرائيل بنوع جديد من الصواريخ، يومها، قادت المقاومة حرباً نفسيةً أشد ضراوة مما تقوم به إسرائيل نحو الشعب الغزي، فلهث أهل المدينة الساهرة في الشوارع بحثاً عن الملاجئ، وأصابتهم نوبات الهلع والذعر، وتوفي بعضهم بالسكتات القلبية. كان هذا كله من مظاهر ثأر غزة من هذه المدينة المتغطرسة، وبعملية حسابية عمرية بسيطةٍ، ندرك أن المقاوم الفلسطيني القابع تحت الأرض، وهو الذي يطلق الصواريخ نحو تل أبيب، نفسه طفل الحجارة الذي كان يجري في أزقة مخيم جباليا، ويلقي الحجارة على الجنود الذين يطاردونه، ويحرق إطارات السيارات، ويلقي بزجاجات المولوتوف نحو جيباتهم العسكرية.
ضرب تل أبيب يدحض المقولة الكاذبة إن الكبار يموتون والصغار ينسون، لأن طفل الحجارة كبر وطور نفسه وسلاحه، وروع المدينة التي لا تنام.
من ذكرياتي التي لا أنساها حين زرت تل أبيب، وأنا طفلة، كتاب القراءة الخاص بالمدارس الفلسطينية، يتأبطه أكثر من يهودي على الطريق، ولم أكن أعلم وقتها أنهم يسرقون لغتنا. ولذلك، تعرف لغتهم العبرية ب"اللغة المسروقة"، وأنهم سيسرقون أمننا وأماننا وقوتنا وحقنا في العلاج والسفر في سنوات عمري المقبلة.

 

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.