المسافر..

المسافر..

20 ديسمبر 2014
+ الخط -
الحمد لله أني أستطيع الكتابة، فهنا المكان الوحيد الذي أستطيع أن أتكلم فيه، وبكل طلاقة، هو المكان الوحيد في هذه المدينة.
-مرحبا... أهلا.. الحمد لله.. أين القطار.. كيف أستطيع أن أبتاع بطاقة للهاتف النقال... شكراً.
أتكلم... صحيح أني أتكلم هنا مع نفسي فقط، ولكني بكل بساطة، أتكلم.
منذ أيام، وكعادتي، استيقظت باكراً جداً، ارتديت ثيابي وانطلقت، أنا أقيم في فندق صغير ورخيص في مركز المدينة، توجهت إلى قسم الاستقبال.
-أريد أن أذهب إلى مكان الحافلات.
طبعاً لم أنطق بها، رفعت يديَّ وضممت أصابع يدي اليمنى الثلاثة، وأبقيت السبابة والوسطى حرتين، بدأت أحركهما تباعاً على المنضدة، كأي ساقين لرجل يسير. أمّا اليد اليسرى فجعلت باطنها متجها للسماء، وأبقيتها ساكنة حتى اعتلاها رجل اليد اليمنى، فحركتها إلى الأمام قليلاً، وأنا أخرج صوت الحافلة، وهي تسير، وفجأة بسطت يدي، ومددتها كطائرة، وأقلعت بها إلى مكان مجهول، لم أقرره بعد، فقط أريد أن أغادر هذه المدينة إلى أي مدينة أخرى، أستطيع فيها أن أجد عملاً.
طبعاً، وكعادة سكان هذه المدينة، تكلم موظف الاستقبال طويلاً، ولم أفهم شيئاً. فجأة تذكر قصتي التي لم أستطع أن أفهمه إياها منذ أيام، إلا بعد أكثر من ساعتين، وأنا أشير إليه بكلتي يديّ. أومأ برأسه مبتسماً، أخرج ورقة من داخل دُرجه، وأمسك قلماً وكتب لي العنوان.
هززت له رأسي شاكراً، وانطلقت حاملاً أمتعتي الكثيرة، حقيبة كبيرة أجرها، وثلاث صغيرة أحملها على كتفي. في أول الطريق، رأيت رجلاً طاعناً في السن، رفعت له يدي محيياً ثم ناولته الورقة. نظر طويلاً، وبدأ يرشدني متكلماً، ومشيراً بيديه. أحمد الله أن لدى البشر هذه العادة، كل البشر. أولاً أشار لي أن أذهب إلى الأمام، ومن ثم أشار بيده اليمنى، وكأنه يغرف شيئاً ما. هنا ابتسمت، فهو يشير إلى وجود نفق آخر الطريق، أشار لي أن أذهب يساراً عند النفق، ثم سأجد ضالتي.
سرت حتى تعبت، بدأت أندم لأني لم أوقف سيارة أجرة تقلّني إلى محطة الحافلات. أريد أن أوفر النقود، فلا عمل لدي، وأنا أبحث عن عمل منذ قدومي إلى المدينة، بعد أن قطعت أكثر من ألفي متر، وبعد أن نفد صبري وذاب رأسي، وأصبح قميصي وكأنه خرج للتو من الغسالة. وجدت النفق. نعم وجدت النفق، وضعت حقائبي أرضاً، وطرت فرحاً، وأمسكت علبة السجائر وأخرجت لفافة، ووضعتها على فمي وأشعلتها، أخذت نفساً عميقاً جداً، وأغمضت عيني، وبدأت أسبح في سماء المدينة، إلى أن اصطدمت ببرج طويل فيها، فتحت عيني ونظرت إلى اللفافة.
- يا إلهي إنه رمضان.. أنساني فرحي الصيام، آآآخ، لقد أفطرت.
رميت اللفافة وأكملت مسيري، وعند وصولي إلى محاذاة النفق، نظرت إلى اليمين واليسار.
- آآآخ... أين الحافلات، لا أثر لها.
فجأة لمعت عيناي، من بعيد شاهدت سيدة، تتقدم إلى مكان وقوفي، قررت الانتظار لعلها ترشدني، فقد يكون العجوز مخطئاً، أو تكون الشمس أضاعتني عن وجهتي، انتظرت قدومها حتى صارت قبالتي.
أخرجت صوتاً من فمي، كالذي يهم بالكلام، ومددت لها الورقة. نظرت إليّ بطرف عينها اليسرى بقرف، وأكملت طريقها. يبدو أنّ منظري أصبح كالمتسولين.
- سامحك الله.
لم تكلمني أبداً وكأني من كوكب آخر.. أهكذا يُعامل الغريب هنا!
حملت حقائبي، وتوجهت كما قال لي الرجل العجوز، سرت ألف متر، وعند تقاطع الطريق، شاهدت بناءً صغيراً، نظرت إلى الداخل، فشاهدت غرفة صغيرةً لبيع التذاكر.
- الحمد لله (قلتها وأنا في قمة سعادتي، فقد أنجزت المستحيل ذاك اليوم).
أعطيت الورقة للموظف. أشار برأسه بأنه المكان الصحيح. دفعت له أجرة الحافلة، ثم انطلقت. في طريقي، شاهدت رجلاً واقفاً على يمين طريق المشاة، ولكني قررت أن لا أسأله، فقد عثرت على ضالتي، أخيراً. في نهاية الطريق، لم أجد أي حافلة قط، فقط وجدت درجاً للأسفل.
- أين أنا (قلتها وأنا مهموم).. لقد ضعت، هنا مكان القطارات، وليس الحافلات.
عدت أدراجي إلى الرجل الذي شاهدته منذ قليل، لأساله عن وجهتي، أعطيته الورقة. نظر طويلاً، وفكر ونظر إليّ، وكأنه لا يعرف القراءة أبداً، ثم قال:
-كيف أستطيع أن أُفهِم هذا الأخرس أنني لا أتكلم التركية أبداً.
-أنت سوري (قلتها له، وكأني وجدت كنز قارون كله، وأي قارون هذا، فالعثور على من أكلمه هو نهاية الحكاية).
-أنت سوري.
- نعم.
أخبرني بعد أن تعارفنا بأن المكان للقطارات، وليس لحافلات المطار، أخبرني كيف أذهب وأصل إلى وجهتي، ودّعته على أمل أن أجد في المدينة الجديدة التي سأقصدها من أكلمه.
avata
avata
مضر عدس (سورية)
مضر عدس (سورية)