علمها عند ربي

علمها عند ربي

28 يناير 2015
+ الخط -
كُنّا في الذكرى الأولى لمذبحة رابعة، ولم تكن ساعات ذلك اليوم العصيب قد انتهت بعد. لذلك، استغربت تهلّله، وهو يقول "الحمد لله اليوم عدّى على خير"، رددت بجفاء "خير إيه في تسعة ماتوا لحد دلوقتي"، فقال بجدية مفسراً فرحته "عشان كده حمدت ربنا، كنت متوقع إنهم يقتلوا 300 واحد فلما يموت تسعة، ولا حتى عشرين، يبقى كرم من ربنا". وحين طالت "تتنيحتي" عقب كلامه، قال مستعجلاً ردي: "مش كده برضه؟"، فلم أجد ما أقوله سوى: "ربنا يجيب العواقب سليمة".
لم يكن محدثي من أنصار التفويض بالقتل، أو هواة الطرمخة على دماء الخصوم، أعرفه من لقاءات كثيرة جمعتنا بحكم الجيرة، لكن أجملها كان لقاءنا على كوبري الجلاء، عصر جمعة الغضب التي تحل، اليوم، ذكراها العطرة، والتي يعتبرها كل من شارك فيها (يوم الثورة) الحقيقي. ولذلك، كان ما قاله أصدق تعبير عن خلاصة تجارب مواطن عادي، آمن بالثورة، مع سلطة اتفقت وجوهها المتغيرة على استحلال القتل، واعتباره واجباً وطنياً. فكرت، بالأمس، أن أتصل به، لأسأله: هل يعتبر أن ذكرى الثورة الرابعة مرت على خير، لأنها حصدت أرواح العشرات، لا المئات، كما كان بعضهم يتمنون غِلّا ووساخة أو غشومية وغباوة، ثم عدلت عن ذلك، لأنه لو سألني هذه المرة "مش كده برضه؟"، فلن أقوى على ترديد "ربنا يجيب العواقب سليمة"، لأن ذلك لم يعد وارداً للأسف، في ظل استمرار المعارك الصفرية التي لا ينتج عنها سوى إفساح الشهداء القدامى، مكاناً للشهداء الجدد.
للأسف، لم يتعلم كثيرون بيننا من دروس الأعوام الماضية، بشكل يعيد تجسيد تعبير (السائرون نياماً) الذي صكّه الأديب الكبير سعد مكاوي، فلا زال بيننا من يعتقد أن هناك من سيعرض نفسه للقتل، لأن أحداً دفع له أموالاً، ومن يعتقد أن هناك من يمكن له التحكم في غضب الناس أو توجيهه. في يوم واحد، تلقيت رسالتين من رفيقي ثورة تقطّعت بهما السُّبُل، يطلب أولهما توقيعي على بيان ينصح الثوار بالاصطفاف لإحياء ذكرى جمعة الغضب، ويطلب الثاني توقيعي على بيان ينصح بعدم إحياء أي فعاليات ثورية حقناً للدماء، فدعوت الاثنين للتوقيع على بيان مختصر، يقول: "إذا كنت ستنصح أحدا، فانصح السلطة التي تقتل الناس، بأن تتوقف عن غباءها الذي يواصل صناعة الإرهاب كل لحظة، ويمنح الغضب أسباباً جديدة، تزيد تعميقه وخطورته"، فاعتبر الأول موقفي عدمية انهزامية، واعتبره الثاني تشجيعاً على الانتحار الثوري.
كنت قد كتبت، قبل عامين، أن ما سيحدث، خلال السنين المقبلة، هو صراع بين شعار "يا نجيب حقهم يا نموت زيهم" الذي زاده القتل المجاني مرارة وألماً، وشعار "الحي أبقى من الميت" الأكثر جاذبية للمطحونين الذين حُرموا حتى من الفتات الذي كانت تلقيه لهم دولة مبارك، وها نحن، الآن، وبفضل ما قامت به سلطة عبد الفتاح السيسي، منذ لحظة التفويض، نرى كثيرين يظنون أن الحل الوحيد يكمن في تجاوز شعار "يا نموت زيهم"، نحو شعار "يا نموت احنا الكل"، خاصة وهم يرون أن القتل المادي، أو المعنوي أو النفسي، صار مصير كل من يتمسك بسلميته، ليعترض أو يغضب أو ينتقد، أو حتى يحاول إحياء ذكرى الذين لم ينجح في أن "يجيب حقهم" بأي شكل كان.
في ظل أجواء خرائية كهذه، صار ملايين المصريين رهائن لصراع مفتوح، بين إرهاب أعمى البصيرة لا يدرك أنه يقدم، بقنابله ودمويته، أسباباً لترسيخ الاستبداد وشرعنته، ونظام أهوج منعدم الكفاءة، لا يدرك أنه يقوم بتعميق جذور الإرهاب، حين يواصل قتل السياسة وخنق الحريات العامة وإطلاق مخبريه في وسائل الإعلام، ليتفننوا في تحويل المواطنين إلى وحوش مُستنفَرة. وفي حين يراهن الإرهاب المتمسح بالدين على انفجار المواطن العادي غضباً من فشل السلطة، تراهن السلطة الفاشلة المتمسحة بالدين أيضاً، على بقاء المواطن العادي في أحضانها خوفاً من الإرهاب. وفي ظل ذلك، تراود بعضهم أحلام بريئة ـ زاعقة أحياناً ـ بجمعة غضب جديدة، ناسين أن شروط تحقق ذلك لم تعد قائمة، لأننا قد نشهد بعدها لجاناً شعبية للاقتتال وتصفية الحسابات، وليس للتأمين والتضامن. لذلك، لم يعد أمام السيسي وأذرعه في القضاء والأمن والإعلام، إلا تحمل مسؤولية خطاياهم بشجاعة، إن لم يكن لإنقاذ البلاد، فلإنقاذ أنفسهم من مصير لن يستثني الكل من تبعاته.
وحتى يحدث ذلك بثمنٍ لا يعلمه إلا الله، ومع أنك تدرك عبث التمني، لا يبقى الا أن تأمل لكل من ترجو منه الخير، ألا "يموت زيهم"، إن كان جاداً في أن "يجيب حقه وحقهم".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.