كلام جاد في انهيار حاد

كلام جاد في انهيار حاد

24 أكتوبر 2014

الأمن المصري يقمع متظاهرين مناهضين للانقلاب (30 نوفمبر/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

كتبت، مرة، مقالاً رفضت صحف مصرية أن تنشره، في عهد المخلوع حسني مبارك، تحدث كيف أن الإنسان العربي، والمصري خصوصاً، أرخص شيء في حسبان هذه النظم العربية، وأن كل شيء يغلو ثمنه، إلا الإنسان، فإن أسعاره تتدنى وربما تتدهور. وفي ذلك الوقت، كانت المطالبات من ليبيا لتعويض الضحايا الذين قتلوا في لوكيربي، وبعض من قضوا في انفجار في ألمانيا، واتهمت ليبيا بالمسؤولية المباشرة عن هذه الأحداث، وبدت ليبيا تدفع تعويضاً لكل فرد بالملايين. وبالتزامن، كان هناك غرق عبارة "سالم! اكسبريس" وتبعتها عبارة "السلام"! والذي لم يدفع لأي شخص فارق الحياة إلا آلاف جنيهات تعد على أصابع اليد الواحدة، وتأكد لنا أن أسعار الإنسان المصري في هبوط مستمر. ووقع حادث مروع في قطار الصعيد، حينما احترق، ولم يصرف لكل ضحية سوى آلاف الجنيهات من وزارة الشؤون الاجتماعية، آنذاك، التي قررت تلك الإعانات والتعويضات.

ذكرني ذلك المشهد مقترناً بمشهد آخر، متمثلاً بذلك الانهيار الذي يلمُّ بالبورصة في مصر، ما أدى إلى خسائر فادحة، مرة بعد انتخابات الرئاسة الأخيرة التي حاولت شرعنة انقلاب غاصب، وأخرى، في هذه الأيام، خسارات نتابع أرقامها منذ أكثر من أسبوع، بلغت المليارات. ومع هذه المقارنة وتلك المقاربة، يبدو أن الانهيار لم يصب فقط البورصة المالية، لكنه أصاب تدهوراً وتدنياً للبورصة الإنسانية. 

"بورصة حقوق الإنسان" التي تمثلت في سلسلة انتهاكات لحقوق الإنسان التأسيسية التي ترتبط بحق الحياة وحقوقه الأساسية، وكذا حقوقه المدنية والسياسية، وارتبط ذلك بظواهر عدة، تؤشر على ذلك الانهيار المفزع، في سياق هدم منظومة العدالة، مع سبق الإصرار والترصد، وتدهور تلك الحقوق على مستوى المؤسسات والسياسات والمطالبات، حتى صارت مرفوعة من الخدمة، تعبر عن حالة من الاستهانة، ليس بالحقوق فحسب، ولكن بالإنسان ذاته، نفساً وكياناً، روحاً وبنياناً.

وبدا ذلك الانهيار، للأسف الشديد، يغطى ويتستر بترسانة من الكلام عن حقوق الإنسان، ليس إلا فائضاً من الكلام، وحديث الزينة والديكور، تمارس فيه السلطة كلاماً منتفخاً، يكذبها واقع شديد التدني للإنسان وحقوقه، يؤشر على فجوةٍ، بل هوة كبيرة بين القول والفعل، فصارت هذه الحقوق حبراً على ورق، وصارت الانتهاكات ممارسةً يومية لواقع مرير، تهضم فيه الحقوق، ويعدم فيه الإنسان.

ومن المؤسف حقاً أن هذه المنظومة الانقلابية، وبدستورها الذي أصدرته، ولم تلتزم به، تباهى واضعوه بباب حول الحقوق والحريات، قالوا إنه لا يمكن أن تجد نظيراً له في دساتير الدول الأخرى، إلا أن الانتهاكات اليومية وإزهاق الأرواح والاعتقالات كذبت كل حرف حول الحقوق والحريات فيه، تزور على حقيقة الواقع المرير.

ومن مشاهد تؤكد ذلك منظومة عدالةٍ فقدت قواعد العدالة، وقدمت، في وقت قياسي، أحكاماً عاجلة من الإعدامات، تتعدى الألف نفساً، وتصدر الأحكام في سويعات معدودات، حتى صار نصيب كل نفس من التحقيق والتقاضى دقائق معدودة، تشكل، في الحقيقة، استهانة بمنظومة العدالة، واستباحة للنفوس والأرواح. وها نحن نرى، كذلك، مشهد الاعتداءات على النفوس في المظاهرات، وكذا الاعتداءات، مرة أخرى، على الجنازات، فيصير الاعتداء مركباً، مرة على الإنسان الحي، وأخرى عند تشييع جسده إلى مثواه الأخير.

وكذلك من مشاهد تدني حقوق الإنسان، وحقه في الحياة، نرى سلسلة من الإهمالات والإهانات، ها نحن نرى سيدةً، ألقيت في عرض الطريق، لتضع وليدها، بعد أن رفضت مستشفى قبولها، وها هي بعض النفوس تُلقى بجوار صناديق القمامة، بعد أن رفضت مستشفيات علاجها، فكان ذلك أكبر إهانة للإنسان المكرم، حينما يُلقى بهؤلاء بلا معالجة، أو مأوى.

وكذا، فإننا نشهد ذلك الانهيار المريع في "بورصة حقوق الإنسان"، حين تقام حفلات التعذيب الممنهجة والاغتصاب للبنات والسيدات داخل أسوار السجون، من دون أي اعتبار لخطوط حمراء، تتعلق بكرامة الإنسان، أو صون الأعراض والشرف، فتمارس السلطة اغتصاباً على اغتصاب، ولا تلقي بالاً لأي احتجاجات، أو اعتراضات، على كل هذه الانتهاكات.

وها هي الجامعات تشهد، هي الأخرى، تدنياً وانهياراً في بورصة حقوقها التي ترتبط بها حرماً وقيماً، أساتذة وطلاباً، الانقلاب يمارس اغتيال الجامعات في فاجعة كبرى، تئد الحريات الأكاديمية، ولا تلقي بالاً لاستقلال الجامعات، تحولت الجامعات إلى ثكنات، وتحول كل أمر يتعلق بالجامعة إلى ملف أمني، فتدنس بالبلطجية، أو طلبة يتجسسون على زملائهم، وعلى قاعات الدرس، لتُسمم الجامعة في أدوارها، ورسالتها السامية.

يا سادة: البورصة المالية ليست وحدها التي تنهار، بل بورصة الإنسان وكرامته وقيمته وحرمته، وكذا حقوقه، تنقض عروة عروة وتنهار، فمن الوهن تولد الإهانة، ومن الانقلاب تنطلق كل سياسة تعبر عن المهانة. ألا ترى "المحرض" و"المفوض" و"المرخص" فى حرمات النفوس، يزين انتهاك الحقوق، ويغري "بالضرب في المليان"، وملاحقة ومطاردة واعتقال أي إنسان، تبريراً للأيدي الباطشة أن تقتل وتقنص وتزهق الأرواح، بكل دعوى واهية، بكل صنوف زراعة الكراهية، ومع انهيار بورصة حقوق الإنسان، يُطلق شعار "تحيا مصر"، ليُرفع استخفافاً من مستبديها على جماجم شهدائها، وقتل أبنائها، ووأد حقوق الإنسان والمواطن فيها.

اللهم إني أشهدك على كل قطرة دم سقطت، وعلى كل روح أُزهقت، وعلى كل جسد عُذب، وعلى كل نفس أفقرت، وعلى كل كرامة أهدرت، وعلى كل حرية وئدت، اللهم إن هؤلاء الظلمة لا يقيمون للإنسان وزناً، ولا للكيان حرمة، ولا للعمران قيمة، "الإنسان بنيان الله ملعون من هدمه".

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".