غزة وواقعتان من الأرجنتين والصين

غزة وواقعتان من الأرجنتين والصين

23 يوليو 2014

مسيرة غضب في نيوزيلندة ضد إسرائيل (يوليو/2014/ Getty)

+ الخط -
"لسنا عرباً ... نعم، سنحارب"
تلك كانت إجابة رجلٍ اسمه الجنرال ليوبولدو جالتيري. كان رئيساً للأرجنتين، لمّا سئل عمّا إذا كان سيحارب بريطانيا التي جرّدت حملةً عسكرية، جويةً وبحرية، ضد قوات بلاده التي كانت قد اجتاحت، للتو، جزر الفوكلاند (المالفيناس، بحسب تسمية الأرجنتينيين لها) لتحريرها من الاحتلال البريطاني. كانت نوبةَ مرجلةٍ من ذلك الديكتاتور، انتهت بهزيمته وبانتصار تاتشري شهير، في حرب دامت شهرين، وانتهت في يونيو/حزيران 1982. ولم يبد أن جملته تلك أحرجت أحداً من جنرالات العرب إياهم، في أثناء حروبٍ واعتداءاتٍ واجتياحاتٍ تناوبت، مثلاً، على لبنان والعراق وتونس وسورية واليمن (احتلت إريتريا جزيرة حنيش بعض الوقت)، أما فلسطين، فجوائح التنكيل بأهلها ونهب أراضيها تعصى على العد.

وأنت ترى، في هذه الأيام، جموعاً كثيرة تتظاهر، في هونغ كونغ وباريس وكولومبو ونيوزلندة والمكسيك وروما ولندن ومدريد (أمثلةً)، من أجل غزة، تنتابك حالة من سوء الطوية، فتسأل عما إذا يأتي إلى مداركِ أي من هؤلاء المتضامنين مع الدم الفلسطيني في قطاع غزة سؤال عن السبب الذي لا يجعل العرب، وقد نعموا برؤساء جنرالات وفيرين، في الاثنين وثلاثين عاماً بعد قولة جالتيري وقبلها، يواجهون ولو عدواناً إسرائيلياً واحداً، فلا يتركونه يتوحش في أي أرضٍ عربية أراد الاستفراد بها. لن يُتعب ذلك المتظاهر النرويجي أو المكسيكي أو الإيطالي (أمثلةً لا غير) من أجل فلسطين، ذهنه في محاولة حل الأحجية: لماذا لا ينتصر العرب، بجيوشهم وطيرانهم الحربي، للمعتدى عليه منهم؟ سينصرف ذلك المتظاهر الغاضب إلى الألم الغزير في غزة، ويشهر تعاطفه الأخلاقي، صدوراً عن انتسابه إلى المجتمع الإنساني الذي يشاركه فيه ناس غزة، وقد استضعف الوحش الإسرائيلي أجسادهم.

الاعتداءات الإسرائيلية على منشأة نووية في العراق، وعلى مقرٍ لمنظمة التحرير الفلسطينية في تونس، وعلى موقعٍ في دير الزور، وعلى مطارح وفيرة في لبنان، إنما هي من وظائف روتينية لسلاح الجو الإسرائيلي، تماماً كما جولات التهديم والقتل الأعمى التقليدية والدورية في قطاع غزة. كما أن العطالة التي يرفل فيها كل سلاح جوي عربي وظيفة روتينية، لا تخرمها نوبة مرجلةٍ عابرة، ولا نزوة شهامة ناتئة. وإذ هذه هي المعادلة الأوضح منذ باغتت إسرائيل الطيران الحربي المصري في واقعة حزيران 1967 ودمرت أكثره في ست ساعات، فإن ما بدر من الديكتاتور الأرجنتيني لا يصير مذمّة، بقدر ما يحسب وصفاً لديدن الطائرات المقاتلة، إذ تمكث في مرابضها، لغايات الصيانة، لدى جيوشنا العربية الظافرة.

نظراء ليوبولدو جالتيري الجنرالات العرب، ممن كانوا رؤساء إبان غمزِه من قناتنا (فقط؟)، وممن استجدّوا رؤساء، أو جددت انتخاباتٌ رئاستهم بلدانهم، جلودهم سميكة، فلا تخدشها صيحةُ أمٍّ غزيةٍ، ولا شتيمة شاب في مسيرةٍ في نواكشوط. وفي البال أن موظفاً لدى أحد هؤلاء، برتبة وزير خارجية، قال، مرةً، في غضبةٍ مضريةٍ، ذات عدوانٍ ما، إن إسرائيل تعرف متى تبدأ الحرب، لكنها لا تعرف كيف تنهيها. وليس في الأرشيف المنقوع بالدم في جنين وقانا وخان يونس (أمثلةً لا غير)، ما يدلُّ على صدق ما نجمَ عن قريحة ذلك الوزير.

ولأن المرويات تأتي ببعضها، وقريباً من تلك الحكاية الأرجنتينية، يُقال إن ياسر عرفات شرح لمضيفه ماوتسي تونغ في بكين عن تطلع الفلسطينيين إلى تحرير وطنهم الذي احتلته إسرائيل، ثم سأله الزعيم الصيني عن عدد الإسرائيليين الذين يحتلون فلسطين، فأجيب بأنهم أقل من ثلاثة ملايين، ولما سأل عن عدد العرب، أجابه عرفات بأنهم أزيد من ثلاثمائة مليون. عندها، سأل ماوتسي تونغ، بجليديته إياها: إِذن. لماذا لا يهاجم ملايين العرب هؤلاء بضعة الملايين الإسرائيليين أولئك، وتنتهي المشكلة التي تحدثت عنها أيها الرفيق عرفات؟

السؤال شديد الوجاهة في هذه الأيام التي نحصي فيها الشهداء والجرحى في قطاع غزة، ونعد في الوقت نفسه الغارات العدوانية الإسرائيلية.   
 
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.