صناعة الطاغية

صناعة الطاغية

20 ديسمبر 2014
+ الخط -

من أروع ما كتب عن صناعة الطاغية مقال (العبودية المختارة) للفرنسي إتيان دي لابويسيه، قبل خمسمائة عام، والعجيب أنه كأنه كتب بالأمس. سأل عن كيفية خضوع آلاف، أو ملايين البشر، لشخص لا يملك عليهم من سلطان، إلا بقدر ما يعطونه، ولا يقدر على أذاهم إلا بقدر احتمالهم ذلك الأذى، أي أنهم لو قرروا أن يعبروا عن عدم احتمالهم ما يلاقونه منه، أو منعوا ما يمتعونه به من جاه وسلطان، ليتحول إلى شخص عادي، لا حول له ولا قوة، خصوصاً سحرهم بكلامه وخدعهم، حتى ظنوا أنه ذلك الشخص الطيب الحنون الذي لا يدري بما يحدث، ولو أنه يدري بما يدور لما رضي عنه، ولكن كل المشكلة تنحصر فى وزراء السوء الذين يحجبون عنه الأخبار، ويقفون بينه وبين الرعية.
وعلى الرغم من أن الواقع، فى معظم الأحيان، يكذب ذلك كله، إلا أنهم يكذبون الواقع حتى لا تنهار صورة مثلهم الأعلى أمام أعينهم. ويقول لابويسيه، هنا، إنهم "لا يرغبون فى الحرية، لأنهم لو رغبوا فيها حقاً لنالوها، لكنهم فرطوا في هذا المكسب الجميل، لفرط سهولته".
والمدهش، هنا، كما يقول إن الحيوانات لا تستسلم للأمر إلا بعد دفاع مستميت عن حريتها، فالفيل إذا ما حوصر وأدرك أنه موقع به لا محالة، يضرب بقرنيه، حتى يكسرهما ويتركهما للصياد، حتى لعله يكتفى بالحصول على العاج، ويتركه مستمتعاً بالحرية، حتى الحيوانات الأليفة لا يمكن أن تنتفع بها، إلا إذا وجدت منا الحنان والترويض والرعاية، وإلا لما استطعنا السيطرة عليها، وكذلك الأسماك، إذا خرجت من الماء تموت.
حقاً إنه مدهش وغريب أن يرغب كل كائن حي فى الحرية، ويتنازل عنها الإنسان بهذه السهولة، وهو أفضل ما خلق الله. وذلك لا يمكن أن يسمى جبناً أو خوفاً، بل هو أمر أكبر من هذا وذاك، تعجز الكلمات عن وصفه، لأن الأمر لا يحتاج إلى شجاعة مواجهة، لكنه فقط يحتاج أن يمنع الناس ما يعطونه لهذا الطاغية الذي، في الغالب، يأتون به من بينهم ليحكمهم، فيجد نفسه فجأه أعلى من الجميع، فتأخذه العظمة، ويعقد النية على عدم النزول أبداً من تلك المكانة العالية، ويتعامل معهم على أنهم ثور يجب تذليله.
إنها أمور كتب فيها منذ قرون، ولا تزال قائمة. والآن، وكأن الناس لم يبلغوا سن الرشد بعد، حتى يتمكنوا من تقرير مصيرهم بأيديهم، ويحتاجون دائماً إلى ذلك الشخص الملهم الذي لا يملك فى الحقيقة إلا الكذب والخداع، ولا يجيد إلا صناعة الوهم ليبيعه لهم.

54371B97-F27A-4F03-A352-C9873B781B99
54371B97-F27A-4F03-A352-C9873B781B99
السعيد حمدي (مصر)
السعيد حمدي (مصر)