رائحة الحبر والورق

رائحة الحبر والورق

01 أكتوبر 2014
+ الخط -

سعدت، أيما سعادة، حين قرأت خبر صدور صحيفة ورقية عربية جديدة، هي "العربي الجديد"، ولأنني قارئة نهمة منذ صغري، أقدر معنى صدور جريدة ورقية في عصر الإعلام الالكتروني الطاغي، ولذلك، كانت سعادتي لا توصف، وتخيلت نفسي أحتضن الجريدة الجديدة كما تحتضن الأم وليدها.

علاقتي مع الجريدة الورقية، أي رائحة الحبر والورق، لا يمكن وصفها، فالطمأنينة التي أشعر بها حين أنثر أوراق جريدة أمامي، وأشتم رائحة الحبر التي تختلط برائحة الورق الخاص بالجرائد، وحين تعلق تلك الرائحة بأصابعي، فذلك قمة السعادة، أشعر، باختصار، أنني أحيا...
للجريدة الورقية مذاقها ونكهتها، كما مذاق القهوة العربية التي كانت تعد في الخيمة البدوية قديماً، فلا القهوة التي تباع في أكياس مغلفة، أو علب صغيرة في "السوبرماركت"، ونعدها في بيوتنا، تعادل طعمها، ولا القهوة التي تسكب من الماكينات الآلية أمام المقاهي والكافتيريات تقترب من مذاقها.

هكذا الجريدة الورقية بالنسبة لي، ويشاركني الرأي كل من أعرف من عشاق الكلمة والذين افتقدوا ما افتقدته، حين طغى الإعلام الإلكتروني على رائحة الحبر والورق.
في القاهرة، كان عشقي الأول للجرائد المصرية الثلاث في الثمانينيات، حين كنت أجلس في الشرفة، وأطرد حشرات صغيرة عن وجهي في ليالي الصيف مع صوت أم كلثوم من مذياع قديم في شرفة بعيدة، حيث يصبح صوتها كأنه قادم من عالم آخر. كنت أشعر بمتعةٍ لا توصف، والجريدة بين يدي، أقلب أوراقها، خصوصاً أن صفحاتها كانت كثيرة، قياساً بصفحات الجريدتين الفلسطينيتين، "القدس" و"الفجر"، واللتين كانتا تخضعان لمقص الرقيب العسكري، وفي الضحى، أشتري عددا آخر من الجريدة نفسها، معتقدة أن العدد النهاري يختلف عن الليلي الذي أكون قد غربلته بعيني، حتى غلبني النوم.

أحببت الجريدة أكثر، حين رأيت منافعها في الأفلام العربية القديمة، فهي أولى وسائل المراقبة لدى البوليس العربي السري الساذج الذي يظهر في الأفلام، ويطارد هدفه، وهو يقرأ الجريدة على ناصية الشارع، أو تحت إشارة مرور، أو جالساً على كرسي في مقهى، وقد ثقب أوراقها بفتحتين، يثبت عينيه فوقهما، ليتابع هدفه، معتقدا أن أمره لم ينكشف.
وأحببت الجريدة التي يعود بها الموظف المطحون من عمله، في الظهيرة، ويلقيها على مائدة الطعام، فيتصفحها كل أفراد العائلة، ثم يكون مصير أوراقها لمسح زجاج النوافذ، وكمفرش فوق مائدة الطعام، ولف الشطائر للصغار.

وأحببت الجريدة، حين مُنعت الصحف الفلسطينية والمصرية من دخول غزة في السنوات الأخيرة، فكانت مجرد رؤيتي ورقة جريدة مناسبةً سارة تبهج قلبي، فأطير فرحاً، حين يلف بأوراقها البائع القطائف، فأفرغها سريعاً وأقلبها وأقرأها، على الرغم من أنني أقرأ أخباراً ومقالات وإعلانات قديمة. أما أوراق الجرائد التي اعتاد باعة الفلافل في غزة لف أقراصه بها، فتلك تكون مغموسة بالزيت وذات رائحة مميزة أحبها وأشتهيها، مع ما فيها من ضرر صحي، إلا أني أفرغ أقراص الفلافل وأفرد "قرطاس الورق وأدور بعيني سريعاً على الكلمات والحروف التي تمددت، وبهتت بفعل الزيت، ولكنْ، لقراءة مقال أو قصة أو شعر مغموس بالزيت مذاق شهي".

وأحببت الجريدة، حين تابعت أحداثاً درامية، لمتهم بريء حكم عليه بالإعدام، وغاب الشاهد الوحيد لبراءته، والذي غيّبه المرض، ولم يكن يتابع أحداث قضيةٍ شغلت الرأي العام، وفي يوم حكم الإعدام تصادف خروجه من المشتشفى، فلفت له زوجته خفه البلاستيكي بورقة جريدة، وحين أمسك به ليضعه في الحقيبة، رأى صورة المتهم البريء، فتذكر أنه رآه في مكان بعيد عن مسرح الجريمة، فأسرع ليدلي بشهادته، وينقذ عنق البريء من حبل المشنقة.

وأحببت الجريدة، حين كتب عنها نزار وغنّت شعره الدافئة الصوت، ماجدة الرومي، وحلمت كثيراً أن التقي برجل حياتي جالساً في مكان هادئ، ويخفي رأسه المدجج بأفكارٍ، مثل أفكاري، خلف ... جريدة.
 


 

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.