"مزاح ثقيل"

20 سبتمبر 2014

ناشطة لبنانية في اعتصام في بيروت ضد العنصرية (مارس/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

المشهد الاول: أب يوجه ابنه، البالغ من العمر أربع سنوات، إلى ضرب نازح سوري بالعصا على رأسه، وسط تهليل الأم والأشقاء.
قامت الدنيا على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحرك الأمن اللبناني لملاحقة الذين بثوا الشريط على "يوتيوب"، واستنفر الإعلام لملاحقة الواقعة، إلا أن الأمور انتهت إلى ما لا يجب أن تنتهي عليه. القضية مجرد "مزاح". هكذا خرج صاحب الفيديو على الإعلام، متأبطاً ذراع والد الطفل المضروب. هكذا انتهت القصة، ولم يتابع أحد مصير العائلة السورية، التي كانت تسكن في إحدى ضواحي بيروت، ولا وضع الطفل الذي ظهر في الفيديو. استمرت الحياة طبيعية.
المشهد الثاني: ثلاثة أطفال سوريين يقبعون في زاوية أحد المنازل التي تشبه الكهوف. سكين تظهر وحدها في الفيديو المنشور على مواقع التواصل الاجتماعي، مع صوت يهدد ويتوعد الأطفال بالذبح. تهديد جاء بعد عمليتي الذبح، التي نفذها تنظيمٌ في حق جندييْن لبنانيين. وعلى الرغم من أن لا أحد يعرف هويات الذابحين، لكن، بما أن الواقعة حدثت في الأراضي السورية، فهناك مهتمون وحيدون: عموم النازحين السوريين. هكذا يصرخ الصوت في الفيديو موجها كلامه إلى الأطفال: أنت داعش.
أيضاً، قامت الدنيا ضد هذا الشريط المصور، لكنها ما لبثت أن قعدت سريعاً. وأيضاً، قام الإعلام اللبناني بتبرئة مواطنيه من العنصرية. القصة مجرد مزاح. وظهر الفاعل على الشاشة مستعرضاً قصته ضاحكاً، لكن بكاء الأطفال في التسجيل المصور لا يقارب كل من شاهده. وسؤال كيف ستغادر هذه الحادثة أذهان هؤلاء الصغار، غير المعتادين على "المزاح اللبناني الثقيل"؟
"مزاح لبناني" لم يبدأ مع النازحين السوريين، هو ممتد لسنوات طوال. لا يخجل اللبناني من ممارسة عنصريته، التي يغلفها بوهم "التفوق والريادة". هو سلوك عام تجاه أي آخر، وإذا تعذر العثور على هذا الآخر. الآخر هنا ليس بالضرورة أن يكون غريباً عن "الصيغة اللبنانية الفريدة"، على الرغم من أن هذا الغريب يوحّد اللبنانيين في عنصريتهم، والتي بدأت مع الفلسطينيين، الذين تمّ تحميلهم وزر الحرب اللبنانية الطويلة، على اعتبار أن هناك يداً غريبة عمدت إلى تخريب هذه الصيغة، وأن الحياة اللبنانية الهانئة ما كانت لتتعكر، لولا الغريب القادم من خلف الحدود.
هذه الصيغة تتكرر دائماً على سبيل المزاح، إلا أن هناك من هو مقتنع بها حد اليقين. فهناك دائماً آخر مسؤول عن الكوارث اللبنانية. بعد الفلسطينيين، الذين لا يزالون يعانون من "الفوقية" اللبنانية، جاء دور السوريين، وكله في إطار "المزاح". لكن، بين أولئك وهؤلاء، وفي غياب "الغريب"، لم يستطع اللبناني إخفاء عنصريته. وإذا لم يكن بالإمكان تفريغها في الإطار الإقليمي، يمكن وضعها في السياق الطائفي.
وهكذا كانت سنوات الحرب، وامتداداتها التي لا تزال قائمة إلى اليوم، حافلةً بتعابير وممارسات عنصرية بين أبناء الطوائف والمذاهب اللبنانية. التفوق لم يكن حكراً على الجنسية، بل بات مرتبطاً بالجنسية وطائفة صاحبها أو مذهبه.  "أشرف الناس" أو "الكمية والنوعية" و"القطعان" هي عبارات استخدمها الزعماء اللبنانيون ضد بعضهم بعضاً، في فترات قريبة وبعيدة، وأنتجت معارك وقتلى ومشردين ومفقودين. وانتهت بـ "تبويس اللحى" وخداع المواطنين: الأمر كان مجرّد مزاح.
بهذه البساطة والخفّة، تدار المسائل اللبنانية، على الأقل في العلن. لكن، في الخفاء الأمور مختلفة تماماً، وخصوصاً أن النفخ في نار العنصرية لا يتوقف، سواء كان غريباً أو قريباً، المهم أنه مختلف. عنصرية تركت لتنمو كوحش يتربص بضحاياه. الغريب يوحّد عنصرية هذا الوحش، ولو مؤقتاً، قبل أن يلتفت ليأكل نفسه، وكله في إطار "المزاح الثقيل"، الذي يدفع ثمنه اليوم النازحون السوريون.

 

حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".