قسط إيراني في تبديد الربيع العربي

قسط إيراني في تبديد الربيع العربي

20 ديسمبر 2014
+ الخط -
من العراق إلى سورية واليمن، فإن الشواهد عديدة على أن قوة إقليمية ذات نزعة تدخلية فظة، ونزعة أخرى توسعية سافرة، تناوئ خيارات شعوب عربية في ما عرف بموجة الربيع العربي. القوة المقصودة هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي تزايدت مطامحها غير المشروعة بإيقاع معاكس وضدي لموجة التحول "الربيعي" هذه.

بين القوى الإقليمية والدولية في منطقتنا وفي عالمنا، كانت طهران الطرف الأكثر تدخلاً وانغماساً في تطويق الموجات الشعبية، وإغراقها عبر أدواتها وأذرعها بالعنف الدموي. فمنذ أواخر العام 2012 وحتى إبريل/نيسان 2013، وعلى الرغم من حالة الانشطار الطائفي، واستشراء موجة العنف، فقد شهد العراق موجة احتجاجات مدنية سلمية لا سابق لها، كما الحال في بلدان عديدة، مثل اليمن وسورية والجزائر والأردن والمغرب والبحرين، وشملت الاحتجاجات مناطق واسعة في غرب البلد وشمالها، وقد تجاوب مع الموجة وزراء يمثلون القائمة العراقية والأكراد، وقد بادرت حكومة نوري المالكي المرعية إيرانياً إلى قمع موجة الاحتجاجات هذه بالقوة العارية والنيران الحية مع تلبية مطالب جزئية، مثل الإفراج تحت الضغط عن سجينات سياسيات.. كان يؤمل، آنذاك، أن ينتقل العراق من موجة التفجيرات والاستقطاب الطائفي إلى حالة مدنية سلمية، وصراع سياسي عابر للطوائف والمناطق، وأن ينتزع العراقيون حصتهم من الربيع العربي، ويبرهنوا على تساوقهم معها، إلا أن حكومة المالكي توجست من هذه الظاهرة الاحتجاجية السلمية أكثر من خشيتها من موجة التفجيرات والمجازر، وسارعت إلى اتهام عشرات آلاف المتظاهرين والمعتصمين بأنهم يمثلون شكلاً من الإرهاب، على الرغم من أنهم لم يقترفوا أية أعمال عنف، وخصوصاً بعد أن استقطبت تأييد جماعات وطنية مختلفة. وبرهن المالكي الذي ظل يحتضن ميليشيات طائفية رديفة للجيش أنه لا مكان للربيع العربي في العراق، وأن النفوذ الإيراني العميق والكاسح في بلاد الرافدين هو "الربيع" الوحيد المحتفى به والمعترف به.

بما يتعلق بسورية، فقد ناصبت طهران، منذ الأسابيع الأولى للانتفاضة السلمية، العداء لموجة الاحتجاجات والتظاهرات، واعتبرت ما يجري مؤامرة، وشاطرت النظام الحاكم خطابه السياسي والإعلامي، وسارعت إلى تزويد النظام بخبراء في القمع، واقترحت تشكيل مجموعات مسلحة من الشبيحة للاندساس وسط المتظاهرين السلميين وقتلهم، وهو ما حدث مع تشكيل هذه المجموعات التي بلغ تعداد أفرادها نحو 30 ألفاً، وكانت مهماتهم، وما زالت، بعد أن أصبحوا يحملون مجموعات الدفاع الوطني قمع أية معارضة، سلمية كانت أم مسلحة. وسجل التدخل الإيراني في سورية حافل بالدعم المالي واللوجستي والتخطيط العسكري، واستقدام ميليشيات طائفية من العراق، ثم دفع حزب الله للانغماس في قمع تطلعات السوريين إلى الحرية والكرامة، وصولاً، في بعض الحالات، إلى المشاركة المباشرة في المواجهات. وقد بلغ الأمر أن طهران قد عزمت، وما زالت، على تشكيل نسخة سورية من حزب الله في لبنان، تكون ذراعاً لها، أيا كانت التطورات التي سيؤول إليها الوضع في بلد الأمويين.

في اليمن، استغلت طهران موجة الاحتجاجات وما تخللتها من سيولة أمنية، هناك لتقوية شوكة ذراعها المحلي الحوثيين، وبينما كان اليمنيون يحتشدون من أجل التغيير، كان الحوثيون يستعدون لقضم السلطة الجديدة والاستيلاء على مناطق تلو أخرى. وما إن آل مسار التغيير والعملية السياسية إلى الأخذ بالمبادرة الخليجية، حتى عمد ذراعهم المحلي إلى تفريغ هذه المبادرة من محتواها بالتنازع على السلطة ومنازعة الرئيس الوفاقي، والزحف المتدرج إلى صنعاء. وبهذا، تمت تصفية نتائج الثورة اليمنية، وإحلال أمر واقع جديد بالسطوة المسلحة والتدليس السياسي والتحالف مع المتضررين من الثورة، وفي مقدمهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح.

وخلافاً لهذا الموقف المعادي لموجة الربيع، برز استثناء وحيد، هو وقوف طهران مع الاحتجاجات في البحرين، وهو أمر يمكن فهمه بالنظر إلى التركيبة الطائفية، فقد كانت طهران، وما زالت، مع خيار طائفي محدد دون سواه في هذا البلد، وليس مع التجديد أو المشاركة السياسية. وذلك يتساوق مع مزاعم إيرانية باقية تنكر سيادة البحرين واستقلاله، على الرغم من العلاقات الدبلوماسية القائمة معه.

يتسابق المسؤولون الإيرانيون في التباهي بنفوذهم الممتد في المنطقة، من اليمن إلى لبنان، ويتحدثون عن ذلك باعتباره حقاً مكتسباً وأمراً واقعاً ينبغي تثبيته وتوسيعه، ويضعون، علناً، خطوطا حُمراً لمستقبل العراق وسورية، وقد تعاظم ذلك كله بموازاة الربيع العربي، وبالتزامن معه، ورداً عليه، من أجل حرمان شعوب عربية من القرار الوطني المستقل، ويضيفون إلى ذلك العبث بالنسيج الاجتماعي والثقافي، ويسهمون في تأليب الجماعات الأهلية على بعضها، وهو ما كانت تتورع عنه قوى "الاستعمار الجديد" في ذروة الحرب الباردة في منطقتنا، والتي كانت تكتفي باتفاقيات دفاعية وأمنية مع بعض الأنظمة الحاكمة، بينما تريد طهران استتباع الشعوب لها، لا الأنظمة فحسب، وتنغمس في عمليات تحويل اجتماعي، كالتي تقْدم عليها طهران التي يشتري متمولون منها عقارات وأراضي في دمشق ومناطق سورية أخرى، من أجل تغيير الخريطة الاجتماعية والمناطقية في هذا البلد، مع المساهمة النشطة في تدمير حواضر حمص وحماة وحلب، لتوفير بيئة ملائمة لنفوذ دائم وشبكة مصالح راسخة، يغيب فيها الوزن الاجتماعي والاقتصادي للمكون السنّي السوري. كذلك الأمر في لبنان، حيث جرت محاولات لشراء أراض بمساحات كبيرة، من أجل تغيير المعادلة السكانية والمناطقية في بلاد الأرز، كما نقلت ذلك غير مرة مصادر "مسيحية". وكما جرى مع 30 مركزاً "ثقافياُ" أنشأتها طهران في السودان، وكان على رأس مهمات هذه المراكز التحويل المذهبي لمن استطاعوا الوصول إليه، واستمالته من السودانيين.

من الطريف والبائس، خلال ذلك، أن شطراً كبيراً من القوميين واليساريين العرب لا يلحظون كل ما تقدم، فهم متخصصون في مناوأة أميركا حصراً والعداء اللفظي لإسرائيل، فإذا ما ظهرت قوة أخرى تنهج النهج الإمبريالي الأميركي، وتزيد عليه في النظر إلى الشعوب العربية والتعامل معها، ومع حقوقها الثابتة في الحرية والكرامة، فإنهم يعتبرون ذلك صرفاً للأنظار، حتى لو دهم الطامحون الجدد في الهيمنة الديار، ونكّلوا على رؤوس الأشهاد بالشعوب شر تنكيل.