قطاع غزة.. لعنة الجغرافيا أم لعنة الطغيان؟

قطاع غزة.. لعنة الجغرافيا أم لعنة الطغيان؟

31 أكتوبر 2014

جنود مصريون يغلقون بوابة معبر رفح (5 ديسمبر/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

عادة ما يحيل بعضهم الوضع المزري لقطاع غزة، وسكانه الذين يقاربون المليوني نسمة، إلى "لعنة الجغرافيا". فذلك الشريط الضيق الذي لا تتجاوز مساحته الكلية الـ360 كيلومتراً مربعاً، يعيش، ومنذ أكثر من سبع سنين، حصاراً خانقاً، وهو في غياب حليف جيو-استراتيجي له في المنطقة، يغدو مطوقاً بالكامل، كما هو الحال اليوم.

فمن الشمال والشرق تحده إسرائيل، ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط، والذي هو تحت سيطرة إسرائيل عملياً، ومن الجنوب الغربي تحده مصر. منطق الأمور يفترض أن الجنوب الغربي ينبغي أن يكون بوابة غزة الحرة إلى العالم ومتنفسها الحقيقي، فمصر دولة عربية مسلمة، بل أكبر الدول العربية، ومحور ثقلها. غير أن الواقع يقول بعكس ذلك، فلطالما وظفت الأنظمة المصرية المتعاقبة هذه الحقيقة الجغرافية للتنغيص على الفلسطينيين، من سكان غزة، والبطش بهم، عند كل أزمة سياسية مع قياداتهم. وكان هذا أوضح ما يكون، بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في يونيو/حزيران 2007، في سياق صراعها مع حركة فتح. فمنذ ذلك الحين، فرض نظام الرئيس الأسبق، حسني مبارك، حصاراً شرساً على قطاع غزة، بالتزامن مع الحصار الإسرائيلي، مما أدى إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة فيه، وَحَدَّتْ من حرية حركة الفلسطينيين إلى الخارج.

هذا لا يعني أن الأمور كانت تسير على ما يرام قبل ذلك، فالغزيون كانوا يعاملون كالمجرمين على النقاط الحدودية المصرية، مارين عبر مصر إلى القطاع، أم عابرين خلالها إلى خارجه. غير أن ذلك لم يصل، قبل 2007، إلى حد إغلاق معبر رفح، البوابة البرية الوحيدة لقطاع غزة التي لا تمر عبر الدولة العبرية، في وجوههم، إلا استثناءً. بل إنه، وحتى في سنوات الحصار الأشرس، كان نظام مبارك يتغاضى، إلى حد كبير، عن الأنفاق التي حفرها الغزيون على جانبي الحدود، لإدخال حاجياتهم من الغذاء والدواء والوقود، وغير ذلك من متطلبات حياتهم.

وباستثناء فترة وجيزة من تخفيف نسبي وطفيف للحصار على القطاع، وتحسين شروط سفر أهله عبر مصر، في فترة حكم الرئيس محمد مرسي (يوليو/تموز 2012- يوليو/تموز 2013)، والذي عجز عملياً عن رفع الحصار، بسبب ممانعة أجهزة الدولة العميقة، فإن السلطات المصرية ما فتئت تعاقب سكان القطاع، والفلسطينيين عموماً، على تصويتهم لحركة حماس، ذات الجذور الإخوانية، في الانتخابات التشريعية عام 2006.

ومنذ الانقلاب العسكري الذي قام به الجيش على الرئيس مرسي، مطلع يوليو/تموز 2013، وإعلانه الحرب على جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي لها، كان قطاع غزة مع موعد جديد من الحصار والتشديد والخنق. فالقطاع، بالنسبة لنظام الانقلاب، يمثل امتداداً لنفوذ خصومه السياسيين من الإخوان المسلمين، وبالتالي، فإنه تمّ تكييفه على أنه أحد "بؤر الإرهاب"، خصوصاً بعد إعلان الإخوان "جماعة إرهابية" في مصر.

اليوم، تتضاعف أهمية قطاع غزة في حسابات نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي سُوِّغَ الدفع به إلى الرئاسة، بعد قيادته الانقلاب، بأن مصر بحاجة إلى زعيم قوي، يتمكن من ضبط الأمور فيها، يرى ذلك الانطباع الذي سُوِّقَ عنه ينهار أمام ناظريه. فها هي مصر لا زالت مستباحة أمنيا، وتحديداً، في خاصرتها الرخوة، سيناء. دع عنك فشل نظامه، إلى الآن، في تحسين الأوضاع المعيشية للمصريين وتحسين الاقتصاد، أو حتى كسر الاحتجاجات السلمية المناوئة لحكمه. وهكذا، تمَّ استدعاء "فزاعة" غزة من جديد، لتكون مشجباً لتعليق فشل نظام العسكر عليها. وضمن هذا السياق، تغدو الأسئلة الكثيرة المثارة حول ملابسات عمليتي قتل 31 جندياً مصرياً يوم الجمعة الماضية في سيناء، غير ذات أهمية كبيرة، ذلك أن ما يعني السلطات المصرية الحاكمة هو إيجاد طرف خارجي يُحَمَّلُ المسؤولية، وهو ما أشار إليه السيسي في كلمته عن الموضوع، بهدف حرف انتباه شعبه عن إخفاقاته.

اللافت، هنا، أنه، ومنذ وقع الانقلاب في مصر، سارعت المؤسسة العسكرية إلى تدمير أكثر من 99% من الأنفاق الرابطة بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية، والتي كان الفلسطينيون يعتمدون عليها في تأمين مستلزماتهم المعيشية، وهو ما دفع إسرائيل نفسها إلى الشكوى بأن السلطات في مصر "تخنق غزة أكثر من اللازم"! اليوم، تذهب السلطات نفسها إلى أبعد من ذلك، ببدئها، رداً على هجمات سيناء كما تقول، عملية إخلاء للمناطق الحدودية في الجانب المصري مع قطاع غزة، بهدف إنشاء منطقة عازلة، بعمق أكثر من خمسمائة متر، وعلى طول 13 كيلومترا من الحدود. والهدف طبعاً فرض مزيد من العزلة والحصار على غزة.

لم يذهب مبارك نفسه إلى هذا الحد. صحيح أنه استخدم وسائل أخرى لخنق غزة، مثل وضع ألواح معدنية تحت الأرض في مناطق حدودية، ومد أنابيب مياه من البحر، بهدف إضعاف التربة وتصعيب عمليات حفر الأنفاق، غير أن سياساته السيئة بحق القطاع وأهله، لا تذكر مقارنة بسياسات حكم نظام العسكر. بل إن نظام السيسي، وبالتنسيق مع إسرائيل، يعمل جاهداً، اليوم، على عرقلة قيام مصالحة حقيقية بين الفلسطينيين، وتحديداً بين حركتي حماس وفتح، لإنهاء سنوات من الانقسام. وها هي "حكومة التوافق" الفلسطيني تتذرع، كل يوم، بقصة جديدة لعدم تفعيل ولايتها على القطاع المنكوب والمدمر، بعد العدوان الإسرائيلي الصيف الماضي. أبعد من ذلك، تحفل الصحف الإسرائيلية بتصريحات منسوبة إلى مسؤولين إسرائيليين، تتحدث عن مستوى تنسيق وتحالف غير مسبوقين بين مصر وإسرائيل أمنياً، وتحديداً، ضد حماس اليوم. بمعنى آخر، فإن إسرائيل التي خشيت، يوماً، أنها خسرت "الكنز الاستراتيجي"، المتمثل في نظام مبارك، عوضته اليوم بـ"كنز استراتيجي" أعظم منه وأكبر، ممثلا بنظام السيسي.

الأدهى أن حسابات الاستراتيجيا تقول إن قطاع غزة هو عمق مصر الأمني والاستراتيجي، وأن إسرائيل مصدر التهديد الأكبر لهما. غير أنه في مصر اليوم، كما في جُلِّ الدول العربية، مفهوم "الدولة"، بما تعنيه من مصالح وحسابات عليا، غائب لصالح "النظام"، بما يهمه من نجاة واستمرار، بناء على حسابات ضيقة لأقلية متحكمة ومتسلطة.

قطاع غزة يئن اليوم، وكما جاء في أحد تقارير الأمم المتحدة، فإن القطاع قد لا يصبح صالحاً للحياة عام 2023، فمياهه وتربته وفضاؤه ملوثة جراء الحصار والأسلحة المحرمة دوليا، والتي استخدمتها إسرائيل فيه، وضد سكانه في الحروب العدوانية الكارثية الثلاث التي شنتها عليه في الأعوام الخمسة الأخيرة. لكنه من الواضح أن السلطات المصرية لا يهمها ذلك كله. ومن المفارقات، هنا، أنه سبق للسلطات نفسها أن اتهمت القطاع بالمساهمة في أزمة مصر اقتصاديا، بغرض تحريض المجتمع المصري، ونيل مباركته في تشديد الحصار عليه، فضلا عن حرف انتباهه عن فساد حكامه، وفشلهم في الحكم ومعالجة مشكلات مصر المزمنة، وعلى كل الأصعدة. 

إذن، معضلة قطاع غزة ليست محصورة في "لعنة الجغرافيا" فحسب، فثمة لعنة أخرى تنضاف إليها في هذا السياق، هي "لعنة الطغيان"، فلولا الطغيان ومحاولة تبريره، لما خنق القطاع من جهة الشقيق، كما العدو.