بعد رحيل عبد الله بن عبد العزيز

بعد رحيل عبد الله بن عبد العزيز

28 يناير 2015

وداع الملك عبد الله بن عبد العزيز(23 يناير/2014/Getty)

+ الخط -

رحل العاهل السعودي، الملك عبد الله بن عبد العزيز، وترك المملكة في حالة تفرض إعادة ترتيب البيت الداخلي، فضلاً عن نيران مشتعلة على أطراف حدودها، وهي أكبر مملكة عربية، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.

بدأت ترتيبات البيت الداخلي حتى قبل أن يوارى جثمان الملك الراحل الثرى، عندما أقدم خَلًفه على تعيينات في مناصب مهمة. وككل عهد جديد، سيكون له أنصاره وخصومه ممن سيفقدون مناصبهم أو ستتضرر مصالحهم، وبالتالي، جاءت السرعة في ترتيب البيت الداخلي حاسمة. ولقد تعودت الأسرة الحاكمة في السعودية أن تعيد ترتيب أمور بيتها الداخلي داخل مجلس العائلة، ونجح هذا الأسلوب في الحفاظ على تماسك الأسرة ووحدتها، عندما كان تداول الحكم ينتقل مباشرة بين أبناء الملك المؤسس من خلال تحكيم معيار السن قبل كل شيء آخر. لكن تعيين الملك الجديد خليفة لولي عهده من أحفاد الملك المؤسس ربما قد يفتح باب المنافسة بين عشرات من الأحفاد، الذين قد لا يستسيغون المعايير التي سيتم اعتمادها مستقبلاً، في الارتقاء نحو المناصب الحساسة داخل المملكة.

ليست مصاعب ترتيب البيت الداخلي سهلة، خصوصاً إذا لم يتم التعامل معها كتقسيم لإرث أو توزيع لغنيمة.، فأي إصلاح داخلي حقيقي يتطلب الكثير من الوقت والتسويات والتنازلات، وإذا لم يضع أصحابه في حسابهم إعادة النظر في أسلوب الحكم، فإنه ستكون بمثابة تأجيل للصراع الذي سيبقى قائما إلى حين. والمفارقة أن مواجهة تحديات الخارج تبدأ من التصدي لصعوبات الداخل. وتأجيل الإصلاح من الداخل لم يعد مقبولاً تبريره بالوضع الخارجي المحيط بالمملكة، لأنه لا يمكن التعاطي مع تعقيدات هذا الوضع، من دون إحداث تغيير في الداخل. فحدود المملكة في الجنوب أصبحت مفتوحة على بلد في حالة انهيار، يتنازع فوق أرضه عدوان لدودان لها، هم الحوثيون الذين يشكلون الطوق الجنوبي للحزام الشيعي الذي يلتف حول خصرها، وتنظيم "القاعدة" الذي يتخذ من جبال اليمن قاعدة لفرعه الذي يحلم ببسط سيطرته على شبه جزيرة العرب. أما حدود شمال المملكة، فإنها غير بعيدة عن حمم الحريق السوري، والتشظي العراقي، وتمدد تنظيم "داعش" الذي نصب زعيمه نفسه خليفة على المسلمين، وبات يضع نصب عينه وصول نفوذه إلى أرض الحجاز. وعلى شرق السعودية، فإن الأحوال في البحرين، وتعاظم دور إيران في المنطقة على ضوء تقا
ربها مع الغرب، كلها منغصات تهدد استقرار المملكة. وحتى الأنظمة التي دعمها الملك الراحل، مثل النظام العسكري المصري، وعوّل على مساندتها في حالة الضرورة، ما زالت هي نفسها تتخبط في أتون حربها الداخلية ضد شعبها.

ليس الهدف من رسم هذا اللوحة السوداوية تعميق حالة التشاؤم، أو تعظيم حالة الخوف التي تعيشها شعوب المنطقة، وإنما المهم هو الوصول إلى تشخيص موضوعي، للخروج بقراءة واقعية لمعرفة كيف وصلت المنطقة إلى ما هي عليه اليوم، ومحاولة استشراف المستقبل، وما يخبئه من مآل مفتوح على كل الاحتمالات.

وليس من قبيل التسرع القول إن بعض مصاعب المملكة داخل محيط يمور من كل حدب وصوب كانت نتيجة خيارات انتهجها الملك الراحل في آخر سنوات حكمه، خصوصاً بعد اندلاع ثورات "الربيع العربي"، فقد دفعت حسابات المربع الأمني النافذ القريب من الملك الراحل المملكة إلى تبني سياسة معادية لطموحات الشعوب التي انتفضت ضد أنظمتها السلطوية والمستبدة في اليمن وسورية ومصر. فمارست المملكة نفوذها على دول مجلس التعاون، أو على الأقل على الدول التي تدور في فلكها، للتدخل عسكرياً في البحرين لقطع الطريق على مطالب بإصلاحات سياسية. وضغطت على دول الخليج لشراء سلامة الدكتاتور اليمني السابق، الذي كادت أن تلتهمه نيران ثورة شعبه الشبابية. وكانت أكبر الأخطاء الاستراتيجية في مواجهة انتفاضات الشعوب العربية، إقدام المملكة وبعض دول الخليج على عسكرة الثورة السورية، مما أدى إلى ميلاد الغيلان التي يصعب اليوم كبح شراهة جرائمها. وأخيراً، وليس آخراً، ضخت المملكة من خزائنها مليارات الدولارات للانقلاب على إرادة الشعب في مصر، من خلال أبشع انقلاب عسكري دموي شهده العالم المعاصر.كانت أكبر الأخطاء الاستراتيجية في مواجهة انتفاضات الشعوب العربية، إقدام المملكة وبعض دول الخليج على عسكرة الثورة السورية. ولعل من المفارقات المأساوية، والماكرة أيضاً، أن يتزامن رحيل الملك مع الذكرى الرابعة لأكبر ثورة شعبية سلمية في أكبر بلد عربي هو مصر، والذي ما زالت التظاهرات تخرج في كل مدنه وقراه، وما زال الضحايا يسقطون، وهم يتحدون آلة القمع بشجاعة وأمل، لم تنل منهما كل الاستراتيجيات التي أثبتت إرادة الشعوب نفاد صلاحيتها.

حان الوقت ليعترف منظرو استراتيجية محاصرة "الربيع العربي" بفشل تخطيطهم، ومثل هذا الإعلان لم يكن ينتظر لحظة مأساوية، مثل رحيل الملك السعودي، كما أن درء مخاطر الخارج لن يتحقق من دون مواجهة مصاعب الإصلاح من الداخل. وهذه تتطلب رؤية جديدة تأخذ في عين الاعتبار احترام إرادة الشعوب لأنها هي الباقية.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).