فلاش باك!

فلاش باك!

24 نوفمبر 2014
+ الخط -
اتصل بي مراسل صحيفة أجنبية، عقب الخطاب الكارثي للمشير، ليطلب مني تعليقاً موجزاً عليه. كنت لا أزال في حالة ذهول، ممزوج بالاختناق والأسى، قلت له "تعليقي الوحيد: لا حول ولا قوة إلا بالله". قال لي "هل يمكن أن تعطيني شيئاً قابلاً للترجمة"، قلت له "كل ما يمكن أن أقوله، الآن، أن التاريخ يُرَجِّع نفسه، من الترجيع والرجوع معاً"، وأغلقت الخط.
يا الله يا وليّ الصابرين، متى تتوب علينا من حكامٍ لا يهتزون لدماء الشعوب، ولا يبنون قراراتهم على تقارير المخبرين غلاظ الأكباد، ولا يدركون أنهم، مع كل قتيل يسقط، يدقون مسماراً جديداً في نعشهم هم، ويتفوقون على فرعون نفسه في بطء الفهم، فحتى فرعون، عندما أدركه الغرق، شهد بأن لا إله إلا الذي آمن به بنو إسرائيل.
للأسف، كنت أتوقع أن المشير طنطاوي، الذي منحته الظروف الفرصة لكي يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، سيستنكف أن ينهي حياته المهنية التي بدأها بطلاً في الجيش المصري، بتحمل مسؤولية سياسية عن مقتل عشرات الشباب، وجرح المئات، واختناق الآلاف، وترويع الملايين. كنت أراهن، حتى آخر لحظة ظهر فيها على إنسانيته وإيمانه بالله عز وجل، وأحلم أن يتحدث للشعب المصري من قلبه، معتذراً عن كل نقطة دم سالت، ويتبرأ من القتلة والسفاحين ومهيني حرمة الجثث، ويحيل المسؤولين إلى المحاكمة العسكرية فوراً، ويعتذر عن كل ما تسببت فيه إدارته، هو ومن معه، للبلاد من ارتباك وتعثر، ويعلن الدعوة إلى انتخابات رئاسية فورية، يقرر فيها الشعب مصيره، ثم يعلن أنه سيظل، هو وكل مساعديه ومعاونيه، في خدمة الشعب، حتى ينال أمنه وحريته الكاملة. كان يمكن أن يفعل كل ذلك، فتنزل كلماته الخارجة من القلب برداً وسلاماً على القلوب المكلومة الحزينة. لكنه اختار نفس طريق مبارك، اختار أن يتحدث من منطق التعالي، وهو يظن أن ذلك ما يحتاجه الناس الآن. لم يختر أن يتحدث للناس من قلبه، بل فضل أن يقرأ لهم سطوراً ركيكة، مكتوبة على شاشة لا يراها الناس، وهو يقف أمام خلفية كئيبة، فصب الزيت على نيران الحزن، ولم يتجاوب مع حديثه إلا الذين تجاوبوا مع خطاب مبارك، ليلة موقعة الجمل، أولئك الذين فقدوا رغبتهم في أن يعيشوا حرية كاملة، وأن يشعروا بآلام الناس ومعاناتهم، أولئك الذين لو كان المشير قد وقف صامتاً طيلة خطابه، لقالوا بحرقة لمن يقفون معرضين للقتل في ميادين التحرير "أهو مطالبكم اتحققت.. ارجعوا بقى".
للأسف، كنت أتمنى أن يكون خطاب المشير توافقياً وتصالحياً، لكنه اختار أن يكون خطاباً يحمل رغبة في الاستقواء بعدد الخائفين الذين سيقولون له نعم، أياً كان ما يطلبه، والنظرة الخاطئة إلى قلة عدد المستعدين للتضحية من أجل أن تعيش مصر حرية كاملة، وعدد الذين لا يبالون بفقد أعينهم، من أجل ألا ترى العدالة "طشاش" كعادتها. أعلم أن المشير، الآن، محاط بمن يصورون له أن كل من يعارضونه خونة ومتآمرون ومدفوعون من الخارج، تماما كما كانوا يقولون ذلك لمبارك، وأعلم أنهم يحرضونه على اعتقال قائمة من الكتاب والإعلاميين والسياسيين والناشطين، تماما كما كانوا يُزيّنون ذلك لمبارك، ولا أظن أن هناك رداً أقوى على كل ما يقولونه سوى أن أذكّره بالله عز وجل، وبأنه لم يعد في عمره الكثير لكي يتجبر ويطغى، وأن عليه أن يتواضع أمام سنة الله في الكون، التغيير.
سَمِّني عبيطاً أو حالماً، لكنني ما زلت أتمنى، مخلصاً، أن يعتذر المشير رسمياً، وفي حديث من القلب عن كل ما حدث من تجاوزات من رجاله طيلة الأشهر العشرة، ويقدم المتورطين فيها إلى المحاكمة، فيخسر رجالًا وينقذ نفسه، والأهم من ذلك ينقذ مصر. ما زلت أتمنى أن يفتح المشير باب الترشيح لانتخابات رئاسية في أسرع وقت، يأتي فيها رئيس لفترة رئاسية وحيدة، يشرف على الانتخابات البرلمانية، ووضع الدستور، ولا يكون من حقه الترشح بعد ذلك مطلقا، لنضمن أنه لن يضع الدستور في خدمته، ونبدأ في اللحاق بركب التقدم الذي كان يمكن أن ندخله منذ عشرة أشهر لولا الغباء والعناد.
(نشرت هذه المقاطع التي سمحت بها المساحة ضمن مقال حمل عنوان (تهويمات نوفمبرية) في صحيفة التحرير في 24 نوفمبر 2011 ولا حول ولا قوة إلا بالله).
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.