عن اختلال العقل المصري واحتلاله

عن اختلال العقل المصري واحتلاله

01 اغسطس 2014

أعلام مصر في ميدان التحرير في تظاهرات الثورة (Getty)

+ الخط -
العقل هو الميزان الذهني الذي يتعامل به الناس مع الأخبار والأفكار والأحداث والقضايا، مع التيسيرات ومع المشكلات. به نفهم ما نسمع أو نرى، وبه نصوغ جملة مفيدة، نعبر بها عن أفكارنا ورؤانا الخاصة بنا، وبه نتواصل ونتحاور، ونبني المشترك بيننا، ونعي ما نختلف عليه. العقل هو منهج التفكير والتفكّر، هو نظام الفهم والتفاهم. هو ميزان أصيل في التكوين الإنساني، هو التسوية التي سوى الله تعالى نفوسنا عليها، والهداية التي هدانا إليها (الذي خلق فسوى، والذي قدّر فهدى)، (الذي أعطى كل شيء خلقه، ثم هدى). وكما يتأثر العقل الخاص بكل فرد بالنشأة والتنشئة، بالبيئة وظروف المكان والزمان، يتأثر سلباً وإيجاباً، فإن منطق التفكير الجمعي والعام ينمو ويتسع ويقوى، أو يضمر ويضيق ويضعف، حسب الأحوال.
ومعلوم أن من أهم مقاصد الشريعة الغرّاء (حفظ العقل): عقل الفرد وعقل الجماعة وعقل المجموع والجميع. حفظ العقل من أن يخدر أو يسفه أو يُغيب، أو يفسد، أو يحرف، وحفظه أيضاً، من أن ينمّى ويوعى، ويثقف ويعرف، ويفهم ويعلم، ويمرن ويمهر، وينفتح على معطيات العقول والاكتشافات العلمية والفكرية، ويقدّر إعلاماً وثقافة وتعليماً ودعوة وخطاباً وغيرها. منظومة كبرى من حفظ العقل العام؛ جلباً لمصالحه، ودفعاً لما يفسده أو يضر به.
في مصرنا اليوم، يتعرض منطق التفكير العام لحالة خطرة من الإفساد والاغتيال والتلاعب، على يد المتلاعبين بالعقول، واللاعبين بمصائر الشعوب. يتعرض الشعب، اليوم، لعملية كبرى من تخريب منطق تفكيره و"ماكينته" العقلية، فيما يمكن ملاحظته في عمليات من: الاستلاب والانقلاب والانغلاب. فالإعلام الانقلابي إعلام سحرة فرعون، وقردته ودجاليه ورقاصيه، يقوم على عملية كبرى من سلب المصريين عقولهم الطبيعية، ومن استلاب منطق التفكير الأساسي، ليتم تركيب منطق آخر، يقوم على اللاعقل، اللامنطق، اللاحجة، اللادليل، اللابرهان. لا تقل لهم: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين؟، لا تقل لهم: هل عندكم من علم بهذا؟، فالمستلِبون يملأون الأجواء ضجيجاً بالاتهامات والافتراءات، وتكرار الكلام الذي لم يثبت منه شيء. تقول لأحدهم مثلاً: هل كل من قُتل في عهده جنود، يكون مسؤولاً عن ذلك؟ يقول: نعم، لمحمد مرسي، لكن لغيره: لعل لديه ظروفاً أخرى. تقول له: هل الإعلاميون المعروفون هؤلاء، والذين تستقي منهم معلوماتك وتصوراتك، مصدر حق أو لسان صدق، يقول لك: حاشا لله، ثم لا تجد عنده إلا تكرار كلامهم والدفاع عنه، وكأنه رأى أو سمع. تقول له: من المسؤول عن فشل مرسي وجماعة الإخوان المسلمين؟ يقول: مرسي والإخوان؟، ومن المسؤول عن فشل غيرهم؟ الجواب: أيضاً الإخوان. إنه باختصار: منطق مستلب، وتأتي غزة الفاضحة لتكشف عن خطاب شديد العفن والدناءة، لا يقل استلاباً عن سابقه.

أما الانقلاب فهو ليس فقط في ركوب العسكر على الحياة المدنية، واغتصابهم إياها، وإفسادهم منطقها الذاتي، لكنه انقلاب للمعاني والمفاهيم والحقائق والنظم والأوضاع والمعايير وقواعد التفكير والتدبير والتسيير والحوار. المصريون، اليوم، منشقون على أنفسهم، لكن باسم (الحفاظ على وحدة البلاد). الكراهية تسري في قطاعات منهم، لكن باسم (حب مصر والمصريين). الاستبعاد والإقصاء، بل الاجتثاث والاستئصال متمدد ومتصاعد، لكن باسم (استعادة الدولة الوطنية المصرية الحقيقية دولة الحرية والأمن والأمان)! مصادر الكذب الحصري صارت أنبياء المواطن المصري، والشياطين تطهروا بملائكية كاذبة، والبشر الحقيقيون بنجاحاتهم وخطاياهم، تتم شيطنتهم بأباطيل لا تتوقف. الجاهلون بالدين أفتوا، والرافضون للدين لبسوا مسوح حراسه، الرحماء قسوا، والقساة العتاة يدّعون الحنان والمحبة والشفقة. إنه باختصار: منطق منقلب.
ثم الانغلاب أمام الذين غَلبوا الناس على أمرهم، وادّعاء أن هذا هو أمر الله وقضاؤه وقدره، هي محاولات لإخفاء الجبن بالالتحاف بالمتجبر، وترويج الباطل على أنه الحق المبين، وأن ما يفعله الطاغية إنما هو أخف المضرتين، أو أقرب المصلحتين. الجبناء تعالت أصواتهم على الآخرين بمنطق الجبن المتبجح. المنغلبون يخفون حالهم المزري، وعارهم المهين المشين بادّعاء منطق آخر؛ منطق ماكر خبيث؛ يقوم على ما نسميه: الاستعباط والاستهبال والدروشة والتنطيط...، هذه الكلمات التي تعبر عن منطق مخادع، يخفي خوفه بادعاء الذكاء والنباهة والعقلانية، وأن هذا هو (السياسة). بين ادعاء النباهة ومنطق "الاستحمار"، يمكن أن تفسر كلاماً فارغاً كثيراً يتشدق به أدعياء فكر وثقافة، ومتصدرون، وكذلك جمهور مغمور مغرور.
في (برج بابل) المصري يسود المنطق المقلوب، فتتضارب الأفهام، وتنضرب المفاهيم، وتقوم حالة من البلبلة والتفيهق والتشدق بأشباه الكلام، ولا كلام، وبأشباه الحوار، ولا حوار، إنما طرشان وعميان وسفاهة. وهذا عمّا يريده الانقلاب، يريد الانقلاب قوماً لا يكادون يفقهون حديثاً، قوماً لا يكادون يفقهون قولاً، قوماً يعيشون في شقاق نفسي وفصام ذهني؛ عقلهم مختلط بالجنون، وجنونهم يدعي العقلانية والتعقل. ضرب المنطق الأساسي للتفكير يعني ضرب أسس إنسانية الإنسان، وصناعة المواطن المملوك، الكَلّ على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير. ومن ثم هو ضرب للوطن الذي لا يقوم إلا بمواطنيه العاقلين الراشدين.
تجلّى صدى هذه الحالة في تحكيم ثالوث السفه: الهوى، والكراهية، والبلطجة؛ هذه الثلاثية الحمقاء التي لا يستقيم معها عقل، ولا يقوم بها إنسان ولا مجتمع: الأهواء المطغية، والكراهية الباغية، والبلطجة العمياء المتبجحة. ويمكن أن تحلل كثيراً من الخطاب الإعلامي، والثقافي، والسياسي، والديني، والشعبي الجماهيري، من منظور هذا المنشور الثلاثي. تبنى التوجهات، وتتخذ المواقف، وفقاً لحجج من هذا القبيل: زي ما بقولك كده، هي كده، أنا فاهم كل حاجة (منطق أبو العريف اللي عارف كل حاجة في كل حاجة من غير أي حاجة)، أو هم سبب كل شر، هم سبب احتلال الأندلس، وضياع فلسطين، ونكبة العرب، وسد النهضة، ومعركة الجمل، ومؤامرة ثورة خساير، ومحمد محمود، ومحمد إبراهيم، وعبد الفتاح وغيره..، أو المنطق هو: من حقه يقتلهم ويولع فيهم، أيوه الجيش من حقه يحكم، إحنا ناس مالناش إلا البيادة، أيوة هو كدة وإن مكانش عاجبك، اللي مش عاجبه يسيب البلد ويريحنا منه، اللي يعارض يتقتل، .. وهكذا.
هذا خطاب أُريد له أن يسود، يبدأ بالتشكيك في الثوابت، وأمور أقرب إلى البديهيات، ثم ينتقل إلى الإحلال لمقولات النقيض، فيقبل ما لا يمكن القبول به، ويعقل ما كان لا يمكن دخوله عقل، ها هو اللامنطق يسود الخطاب حول غزة. الدول البعيدة تتخذ الخطاب الشديد، بل تطرد السفير الإسرائيلي، وتتحدث أن ما يقع في غزة لا يمكن قبوله أو تحمله، ولكن، من بين ظهرانينا ينطلق خطاب يحيي نتنياهو، ويبرر فعل إسرائيل، ويشمت في المقاومة وحماس، ما الذي أحدثه التسميم، ومن أين أتى هذا اللوبى المتصهين، ليفرض لغة خطابه المستفزة والدنيئة؟ الثابت الفلسطيني يقوض بفعل فاعل، وقوى سياسية تصمت صمت القبور، بل إن بعضها يشكل الغطاء لسياسات تواطؤ رهيب من سلطات الانقلاب وقوى إقليمية عربية، الانقلاب أحدث شيئاً ما خطيراً، وتسميماً حقيراً.
عودة العقل واحد من أهم أهداف الثورة واستكمالها، لا إمكان للالتئام الشعبي، وعودة الشعب إلى ثورته، وعودة الوطن إلى أسسه الكيانية، والثوابت المتعلقة بغزة المقاومة، إلا بعد استعادة العقل المصري، وفك أسره من معتقل الانقلاب والاستلاب وتحريره من حالة الجبن والإرهاب والانغلاب، وحال التواطؤ والوهن والمهانة والإهانة.
عودة العقل أَولى من مناقشة القضايا قضية قضية، ومحاولات إقناع الخائفين، أو المستلبين، أو المنتكسين، بهذا الأمر أو غيره. الماكينة الذهنية نفسها أصابها العطب. والواجب التركيز في إصلاح الماكينة نفسها: العقل المصري العام. هذه قضية أمن إنساني، تتصل بحاضر الوطن والدولة والمجتمع ومستقبله. هذا أمر مطروح للتفكير والحوار بين الجميع، وله أولوية قصوى: فك أسر العقل المصري، اختلال العقل المصري تمهيداً لاحتلاله، قضية ذات أولوية كبرى.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".